اللهم أن النيل لا يزال يفيض وإن الوادي لا يزال ينبت، وإن الشمس التي أنضجت أذهان الفراعين لا تزال تشع وإن الأيدي التي غرست أولى الحضارات على العدوتين لا تزال تعمل، فما بالنا اليوم يتقدم الناس ونتأخر، وتتحرر الشعوب الضعيفة ونحن لا نتحرر؟
دع عنك ما يقال من كلب الاحتلال، وفقد الاستقلال، وتجني الدول، فأن ذلك كله عرض من أعراض العلة الدخيلة الوبيلة وهي انحلال الخلق. في دهرنا الحديث داء جرثومته أننا عنينا بالتعليم قبل التربية، وبتعليم الابن، قبل تعليم البنت فكان لنا من ذلك الوضع المقلوب رجال يجرون في عنان مع علماء الغرب، بل وربما طالوهم في حذق اللغات وتلون المعرفة؛ ولكن كثيراً منهم يخلون من أخلاق الرجولة خلو البيت من الأم الصالحة والمدرسة من المربي القادر، فتخونهم الكفاية عند التطبيق، وتخذلهم الشجاعة عند العمل، ويفارقهم الضمير عند الواجب، فلا يبقى إلا الغرائز الحيوانية التي تثب على أموال الناس، وتعتدي على حقوق الشعب، وتستخدم السلطان العام في مساعدة الصديق ومكايدة العدو ومناوئة الخصم!. .
وليت غريزة الحياة بقيت فينا على حال الفطرة إذن لعلمنا ما تعلم النمل من قوِام العمل، وفهمنا ما تفهم النحل من نظام الجماعة، وسرنا على نور الله لا نعمة في ظلام ولا نسدر في غواية
إن بعض الأمم الإسلامية أقل منا عدداً، وأرق ثروة، وأضيق ثقافة، وأحدث مدنية ما في ذلك شك، ولكن غرائزها الأصيلة لم يزيفها ذل الرق السياسي، وخلائقها النبيلة لم يفسدها زور المدنية الوافدة، فتمردت على الضيم، وتعنّتت على الأحداث وقلَّمت الأظفار الناشبة في استقلالها، وقطعت الأيدي الطامعة في استغلالها، ومشى أبناؤها الأباة على هدى ماضيهم المشرق لا يستكينون لمشورة حليفة ولا يستنيمون لمعونة أجنبي ولا يستجيبون لوساوس الأطماع في مرافق الأمة ومناصب الدولة حتى انخزلت عنهم التهم وغفلت عنهم الفتن، واستوثق لهم الأمر أو كاد
ذلك يا قوم ما يهدى له منطق الطبع، وصوت التاريخ، وعبقرية الجنس، أما هذا الذي نحن عليه فلا يمكن أن يؤدي إلا إلى الذي نحن فيه. فتداركوا إفلاس المدرسة، وفشل السياسة، وفوضى الحكم، بأيقاظ الضمائر الغافلة واستخدام الكفاءات العاطلة، واستلهام هذا الشعب