سأعرض في هذا البحث للتصوف الفلسفي من ناحية نشأته والعناصر التي دخلت في تكوينه لا من حيث مسائله ولا نظرياته، وإن كنت سأشير إلى بعض هذه النظريات إشارة سريعة مجملة
ونشأة التصوف الفلسفي في الإسلام متصلة بنشأة التصوف نفسه من جهة، وبنشأة الزهد الذي تقدم التصوف الفلسفي منه وغير الفلسفي
وربما خلط بعض الناس بين التصوف والتصوف الفلسفي من جهة، وبين التصوف والزهد من جهة أخرى؛ أو فهم الثلاثة أنها من المترادفات، وليس هذا بنادر الوقوع. أما الزهد فهو الناحية العملية من الطريق الصوفي؛ أو هو الحياة التي يحياها الصوفي، تلك الحياة البادية في مظهره الخارجي من تقشف في المأكل والمشرب واعتزال للناس وانقطاع إلى الله، والبادية في حياته الباطنة الروحية من خشية من الله وورع وتقوى وعبادة وصوم وصلاة وذكر وتهجد وهجر للدنيا وزخرفها. وأما التصوف فأصدق وصف له أنه طريق لتصفية النفس ومجاهدتها ورياضتها والانتقال بها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام والترقي بها في خطوات بطيئة عسيرة حتى يصل بها صاحبها إلى المقام الذي يطلق عليه الصوفية اسم مقام الشهود أو الوجد أو الفناء - وهو المقام الذي يدرك فيه الصوفي - وفي هذه الحال لا فرق بين صوفي مسلم وصوفي مسيحي أو يهودي أو بوذي - يدرك من الحقائق ما لا سبيل للعقل الإنساني أن يدركه، ويتذوق من المعاني ما يكل اللسان الإنساني عن شرحه
وأما التصوف الفلسفي فهو الأساس الميتافيزيقي أو النظريات الفلسفية التي يحاول بها الصوفيون في وقت صحوهم تفسير أو تعليل ما يجدونه في وقت سكرتهم أو في حالة وجدهم
وقد وجدت هذه الأنواع الثلاثة في الإسلام وظهرت فيه ظهورا تاريخيا متواليا بحيث يمكن اعتبار كل منها دورا من أدوار التصوف هو بمثابة المقدمة المنطقية للدور الذي يليه، فظهر الزهد في القرنين الأولين من الهجرة، وظهر التصوف في القرن الثالث، وظهر