يكاد يكون الحنين إلى (المنزل الأول)، غريزة من الغرائز الإنسانية، تزداد قوة ورسوخاً كلما توغل المرء في عبور مرحلة الحياة. . . ولعل أعذب ذكريات الشيخ الفاني المثقل بتجارب الحياة أياماً قضاها على شاطئ اليم يلهو مع الصغار ويجمع الأصداف ويلقى الشباك للأسماك أو يصنع دوراً وقباباً من الطين والرمال، ثم يهدمها ليعيد بناءها. . بل إن الفتى اليافع ليتضاءل أمام عينيه ما يستمتع به من قوة ومرح وصفاء عندما تستعرض مخيلته صور عهد الطفولة المليء بالسذاجة والحركة المتواصلة والمرح البريء. . . وقد ينشأ المرء وضيعاً في كوخ حقير ثم يرتقى سلم العلياء ويسكن القصور ذات الحدائق الغناء ومع ذلك تتوق نفسه للحج إلى مهد الطفولة وتستحيل في نظره خشونته نعومة وقبحه حسناً وجدبه رخاء. . .
وهذا الحنين هو أساس الوطنية ونواة إعزاز القومية لا تخلو منه إلا القلوب الصماء المجردة من العطف والوفاء فلا بدع إذن أن يحط الركاب الشاعر الفياض العاطفة إذا مر بأطلال الديار ليذرف دمعة أو ليستعيد ذكرى أو ليرسل نجوى قبل أن يستأنف المسير ويخب الخطى به عشرا. . .
ولعل أشد الحنين هو حنين ذلك الذي ينتزع انتزاعاً من بين أحضان مهد طفولته ويقصى عنه قوة واقتداراً، ثم يشغل هذا المهد العزيز الوثير أعداؤه المغتصبون بينما هو لا يجرؤ أن يحاول منه اقترابا، إذ تحول بينهما الاستحكامات والحصون فلا يجد من وسائل الاتصال غير الذكرى والخيال. . . ولكن الذكرى التي لا أمل يصحبها ويجلوها تصبح كرياح القيظ اللافحة تحرك الأشجان كما تثير الرياح الرمال. . . والحنين يبعث الذكرى التي هي رمز الوفاء. . . .
إذن فبأجنحة الذكرى أحلق فوق مهد الطفولة المقدس - فوق ربوع السودان. . تلك الربوع التي كانت ميداناً لبطولة الأجداد والآباء، منذ عهد الفراعنة قبل أن تصبح مهداً لبراءة الطفولة ومرحها الفياض