لبس ثيابه واستعد ولكن الباب لم يفتح، فوقف وراءه يصغي فلم يسمع صوتا، فضاق صدره حتى أحس كأن مرارته ستنشق، وأن أعصابه ستتمزق، فجعل يدور في الغرفة وساعته في يده ينظر إليها، حتى فتح الباب وأقبل الحراس ليقودوه إلى المحكمة. . .
وكان يرقب هذه الساعة ويعد لها الدقائق والثواني، لا حباً بالحكمة ورغبة فيها، بل هرباً من الوحدة وخوفاً من لياليها، فقد كان يمر عليه الليل طويلاً ثقيلاً، وهو وحيد في حجيرته (زنزانته) لا رفيق له إلا ذكرياته وأفكاره، ولا مسرح لنظره إلا هذه الغرفة الضيقة، يحدق في جدرانها التي يسيل عليها هذا الضوء الأصفر الشاحب، ويوهمه طول تحديقه فيه أنه يرتجف ويضطرب، وتتراءى له ظلال غامضة لا تلبث أن تضح فيرى فيها صورة مشنقة منصوبة، فيغمض عينيه عنها ويحاول أن ينام فتلاحقه هذه الصور وتزداد بشاعة وهولاً. . . فيحس أنه مشرف على الجنون، ويقوم إلى الباب يشده ويعالجه حتى تكل يداه، فيسقط إعياء وبأساً. . . . ولم يكن يتمنى إلا إنساناً يحدثه، عدواً أو صديقاً يجد عنده صدى خواطره، ورجع أفكاره، ليقنع نفسه أنه لا يزال عاقلاً لم يجن!
لذلك كان يجد هذه الساعة نعمة سابغة، لأنه يلقي فيها أولاده وصحبه، راكبين معه السيارة مقيدين مثله بالسلاسل والأغلال الثقال، ولكن ألسنتهم طليقة فهو يستطيع أن يكلمهم ويكلموه، وهو يلمس من خضوعهم له وإكبارهم إياه ما يثلج صدره، ويعيد له ثقته بنفسه وإنه لا يزال (رباً) معبوداً، وإن قيد وسجن، ولا يزال له عباد مخلصون. . . لم تذهب المحنة سلطانه عليهم، ألم تلق امرأة من أتباعه نفسها تحت سيارة السجن لأنها لا تطيق أن ترى الرب. . . أسيراً مغلولاً؟ ألم يشهد عليه واحد من عبيده غاضاً بصره. فلما قال له الرئيس: أنظر في وجهه. صاح: لا أستطيع، لا أستطيع.؟! فهل يسلمه هؤلاء ويدعون يساق إلى الموت؟ لا. واطمأن ووثق من النجاة، ورأى الدنيا لا تزال على العهد بها، فالشمس مشرقة، والبلد يعج بأهله، والناس يذهبون ويجيئون، ويبيعون ويشترون، ويضحكون ويمرحون، وكان يخيل إليه في وحدته أن الدنيا قد شملها الظلام الذي ملأ نفسه، وإنها فقدت رواءها، وغاضبت منها بهجتها.