وسأل ولده: كم مضى من الشهر؟ فلما أخبره نظر فرأى أنه قد مر على سجنه شهران. شهران فقط وقد كان يحسبهما عمراً طويلاً؟! وجحظت عيناه دهشة وسبح بنظره في الفضاء، لقد أنساه هذان الشهران حياته الماضية كلها، ومحوا منها أيام الحرية والعز والربوبية، فكأنه ولد سجيناً مقيداً، لم يكن قط السيد الذي يطاع، والرب الذي يعبد، وكأنه لم يكن له شعب يعيش به وله، ويبذل الروح في سبيله. ولا يريد من الدنيا والآخرة إلا رضاه.
وأيقظه من ذهوله صوت الجندي يدعوه إلى النزول من السيارة، فقد بلغت المحكمة، فرأى الناس مزدحمين لينظروا إليه ويتسلوا برؤيته، وكان يعرف أكثرهم ويعرفونه، فأغضى وامتلأت نفسه حنقاً على الحكومة لأنها جعلت محاكمته في اللاذقية حيث قام عرش ربوبيته ليراه الناس، ويعلموا مصيره، ولم تجعلها في دمشق المدينة الكبيرة التي لا يعرفه فيها إلا القليل ورأى الناس متلهفين على إشباع أبصارهم منه، والشماتة به، كأنهم في رواية تمثل على المسرح، يريدون أن يأخذوا بحظوظهم من المتعة بها ليعودوا إلى دورهم، ويصلوا ما انقطع من أعمالهم، الحملة هكذا: والرواية رهان على رأسه بين النائب العالم والمحامي أيهما أبلغ مقالاً، وأطول لساناً، وأقدر على سرد مواد القانون. نعم سيعود الناس إلى دورهم، إلا الرب، فل تبقى له دار يعود إليها!
وكان في جلسات المحاكمة الأولى ممتلئاً أملاً، واثقاً بنفسه وبقيام شعبه بنصرته، ولكنه سمع في هذه الجلسة شهادات أتباعه عليه، والوثائق تنهال على عاتقه كأنها ضربات معول صلد على جدار من اللين. . . تضيق عليه باب النجاة، وتسد طريق الخلاص، فتضعضع وأوشك أن يموت في نفسه الأمل.
وسمع النائب العام يتكلم، ويطلب له الموت، ففكر أن يثب إلى عنقه، فيضع يديه على رقبته فلا يرفعهما حتى يخنقه وليصنعوا بعد ذلك ما يريدون، أيقدرون على أكثر من الموت؟ وتصور الموت ففزع منه وخافه، لا، إنه لا يريد أن يموت. . . وسمع محامي الدفاع يقول كلاماً سخيفاً، فأعرض عنه، وأبغضه، وماذا يقول المحامي وهو نفسه لا يستطيع أن ينكر شيئاً مما اتهم به؟