للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تلى كلام طويل، لم يستطع أن يتفهمه، لأن ذهنه كان معلقاً بكلمة واحدة، هي التي تحدد مصيره، قد حبس لها أنفاسه، ووقفت لها دقات قلبه، وخال كل ثانية في انتظارها دهراً، فلما سمع هذه الكلمة خارت قواه، ووهى عزمه، وسقط على كرسيه لقد كانت هذه الكلمة: الإعدام!

ورأى الناس يثبون إليه، ويتدافعون ليحدقوا في وجهه، والمصورين يوجهون إليه آلاتهم ثم شعر كأنه انفصل عن هذه الدنيا ثم ابتعد عنها، حتى رآها وهي تدور من حوله، وقد تداخلت مشاهدها، وخفيت معالمها، ورأى الناس كأشباح تتحرك خلال ضباب الأوهام، وأحس بالقيود توضع في يديه، وبأنه سيق إلى السيارة فألقي على مقعدها، وسمع قهقهة كأنها صاعدة من جوف جب عميق، ولغطاً فيه ذكر اسمه وذكر المشنقة. ثم أخذه الدوار، ولم يعد يدرك شيئاً.

ولما احتوته حجيرته أحس أنه انحطم وسحقت عظامه، كأنما مشت عليه المسالف. . . لقد حكم عليه بالإعدام. . . ولكن الليل قد انقضى وطلع الصباح، ثم نزل الليل مرة ثانية، وهو حي كما كان من قبل الحكم، إلى إن لم يعد يخرج إلى المحاكمة، ولم يعد يرى أولاده ولا صحبه، وكانت الأيام والساعات تمر به فارغة واسعة كأنها أبهاء قصر مهجور، وقد كانت له أعمال يفكر فيها كما يفكر الناس فينسى بها مر الوقت وكر الزمان، فأمسى وليس في حياته إلا الانتظار، وإذا كانت ساعة انتظار النعمة تبدو طويلة مملة، فكيف بمن ينتظر الموت؟ وكان يود لو يتحقق الأمل بالعفو الذي وعده به محاميه، أو يعجل عليه بالموت ليستريح من هذا القلق الذي هو شر من الموت، إذ كان يجهد خياله أبداً ليتصور ساعة الإعدام، حتى ليحس كل لحظة شدة الحبل على عنقه، وحرارة الرصاص في صدره، فأكنه كان يموت في كل لحظة مرة. . . وكان أشد ما يزعجه من الموت هذه الفضيحة، وأن يراه ذليلاً مهيناً من كان يراه بالأمس سيداً ورباً، ولو جاءه الموت طبيعياً كما يموت الناس لما آلمه هذا الألم، أما أن يتحكم فيه بشر مثله، وأن يملك نزع حياته من بين جنبيه وهو لا يملك منحها ولا ردها، فذلك ما لم يستطع حمله. . . وفكر في العفو فرآه سهلاً قريباً، أن في يد رجل مثله مخلوق من لحم ودم، لا يكلفه إلا أن يكتب بقلمه ثلاث كلمات في ذيل العريضة التي قدمها محاميه، فهل يضن بها؟ وهل تهون حياته هذا الهوان حتى لا تساوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>