وتنبه ضميره فذكر كيف كان يستهين هو بحياة الناس، وذكر كم أزهق من أرواح، وكم أهلك من نفوس، وكيف كان يدع طعامه فيقتل الرجل ثم يعود ليتم طعامه كأنه لم يصنع شيئاً، وكيف كان يقتل وهو يتحدث ثم يرجع إلى حديثه لا يقطعه، ولقد كان فيمن قتل أزواج عاشقون لهم نساء، وآباء لهم أولاد، وشباب لهم أمهات، فما فكر في نسائهم ولا أولادهم ولا أمهاتهم فهل يفكر أحد اليوم في زوجاته وأولاده؟
ومرت به الأصباح والعشايا وهو يرتقب وما من جديد وانحصرت حياته في النوم والطعام والتفكير وما ينام وإنما يهده اليأس فيلقي جنبه على الفراش يرى مروعات الأحلام، وما يأكل وإنما يضعفه الجوع فيدس في فمه لقيمات تقيه الموت، وما يفكر وإنما يرى صور ماضيه ماثلات على جدار الغرفة، فينظر إليها كما ينظر المرء إلى فليم في سينما.
فجعل ينظر إليه. . .
رأى (جوبة البرغال) هذه القرية التي تغلغلت في جبال العلويين حتى وجدت أقفر بقعة فيها وأوحشها وأبعدها عن العمران، في فجوة من الصخر، يطيف بها جبل قائم فيطوقها من جهاتها الثلاث، كأنه حصن حربي فلا يدع لها إلا بابا ضيقاً يطل منه جبل آخر، يمد إلى (خشمه) فينحدر إلى الفجوة حتى إذا توسطها اضطجع وتمدد، فاستقرت الجوبة على عنق هذا الجبل النائم، يحميها كتفه من هنا ومن هناك قلعات الصخر الراسيات من الجبل المستدير، وذراه الشامخات الأعالي، هذه هي عاصمة ملكه، ومعقله ومثوى عرشه الرباني. . . التي ظن أنها ستعصمه من جبابرة الأمس ومن عفاريت الجن، ومن القنابل الطائرة والنازلة والذرية. . . ثم تمده بالقوة والأيد حتى يقرأ منها على الدنيا، مرة ثانية، كتاب الذعر والخوف والاغتيال، الذي كتبه من قبل في هذه الجبال وهذه التلاع اتباع الحسن بن صباح وسنان شيخ الجبل. . .
وتبدل المشهد وعاد به إلى الماضي، إلى أول عهده بالدنيا يوم كان فتى غراً يرعى الأغنام في هذي التلاع، لا يحمل هما، لأن الهم يحتاج إلى فكر ولم يكن له رأس يفكر، ولا يطمع في شيء إلا لقيمات تسد رمقه وتشد صلبه؟ وفراشاً من القش يريح جنبه ألا ليت هاتيك الأيام قد دامت، ودام الفقر والبؤس، ولم يعرف طريق المجد الذي يوصل إلى المشنقة،