(قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم
عمراً من قبله أفلا تعقلون)
(سورة يونس - ١٦)
بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم فكانت معجزته الكبرى هذا القرآن الكريم بفصاحته الباهرة وما جاء به من تشريع قويم في أصول الدين وفروعه، على أنه كان مع هذا يلجأ إلى العقل فيستعين به في تأييد رسالته، وإلى العلم فيستخدمه في إثبات نبوته، وإلى هذا تشير تلك الآية الكريمة من سورة يونس (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون).
فهو يقيم في هذه الآية دليلاً على صحة نبوته يستند إلى دراسة تاريخه قبل النبوة وبعدها، وإلى دراسة نفسه في هذين الحالين، والدراسة الأولى فرع من علم التاريخ، والدراسة الثانية فرع من علم النفس، وسنقوم الآن بهاتين الدراستين، ونتتبع فيهما أطوار حياته صلى الله عليه وسلم.
الطور الأول: ولد صلى الله عليه وسلم يتيماً عائلاً، لم يرث من والده شيئاً، لأن أباه مات قبل جده عبد المطلب وهو شاب لا يكاد يجاوز حد العشرين، فلم يرث شيئاً من مال أبيه، ولم يتمكن من أن يجمع شيئاً لأبنه. بل مات بعد شهرين من حمله، ثم لم تلبث أمه أن ماتت بعد موت أبيه، فكفله جده عبد المطلب، ثم كفله بعد وفاة جده عمه أبو طالب.
وكانت قريش تعيش في مكة عيشة متحضرة تعتمد على العمل والكسب، ولا تعرف ما تستنه البادية العربية في معيشتها من الغزو والنهب، فنشأ محمد صلى الله عليه وسلم على غريزة قومه، محباً للعمل، راغباً في الكسب الحلال، وهو الذي قال بعد هذا في رسالته: أطيب الحلال أن يأكل الرجل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده
فلما بلغ مبلغاً يمكنه معه أن يعمل عملاً أخذ يرعى الغنم مع أخوته من الرضاع في البادية،