أذكر أني ما قرأت بعض فقرات من (يوليوس قيصر) لشكسبير، إلا غمرني حزن حقيقي. قصة أخرى أذكر أيضاً أنها كانت تترك في نفسي عين الأثر: هي رواية فرنسية تسمى (نابليون المسكين) لكاتب فرنسي يسمى (برنارزبمر) يصور فيها الإمبراطور سجيناً في جزيرة سانت هيلانة، وقد قصت أجنحة هذا النسر الهائل، وقلمت مخالبه، وأمسى مخلوقاً بائساً يهزأ به خادمه ويخفي عنه غليونه الذي يدخن فيه، ويهمله سجانه الإنجليزي ويدعه يتقلب طول الليل على مضجع الألم من مرض أضراسه، فلا يرحمه ولا يحضر له طبيباً ولا دواء، ويلقبه (بالدب) الذي وضع في أنفه حلقة من حديد ويسمح لبعض الزائرين من السائحين أن ينظروا إليه خلسة من ثقب باب حجرته، كأنه أسد هرم رابض في قفصه بحديقة الحيوان، هذا الذي كان وحده يقيم العروش ويثل العروش، ويدب بحذائه العسكري على أديم أوروبا فتهتز لمشيته التيجان على رؤوس الملوك. وكان يقول في صوته الحديدي: أنا وحدي (أوربا)، فتقول له أوروبا كلها: بل أنت (العالم). نعم لا شيء يؤلم نفسي مثل رؤية (العظيم) يرى سقوطه بعينيه، ومع ذلك لقد احتفظ هذا العظيم بكبريائه حتى النفس الأخير. فلقد كان يصر على أن يلقب بالامبراطور، ولقد خاطبه في ذلك مرة حارسه الإنجليزي قائلاً له: إمبراطور على من؟ وإمبراطور على ماذا؟ فلم يجد منه إلا تشبثاً. فأذعن رفقاً به أو سخرية منه، وترك له هذا اللقب الذي لا يغني ولا يفيد. ولبث هذا البطل المهجور يعيش في هذه الجزيرة المهجورة إلى أن مات، لا بين قصف المدافع ودوي الأبواق ودق الطبول وهتاف العالم من جميع الأركان، ولكن بين سكون النسيان، لا يشيع جثمانه العظيم غير خادم وسجان. يا لقسوة القدر! إن السماء لتنتقم أحياناً من العظيم الذي يتوهم أنه غير وجه العالم بأعماله، فتؤخر موته بضعة أيام عن الوقت الذي كان ينبغي فيه أن يموت، حتى يرى بعينيه قبل أن تغلقا أن العالم بخير لم يتغير فيه شيء بذهابه، ولم تخفت ضحكاته ولم تقف عجلاته برحيله.