طوت (عليه) أيام الطفولة، أيام كانت تلهو وتلعب في منأى عن قيد التقاليد، أيام كانت تمزح بعيدة عن غل الدار. . .
طوت هذه الأيام فأخذت تشعر بدم الشباب يفور جياشاً في عروقها فيضطرب أمنية في قلبها، ويلمع جمالاً في خديها، ويتألق حياة في خاطرها، فامتدت يدها الغضة ترتب شعرها الفاحم السبط على نسق جميل جذاب، وامتد ذوقها النشوي إلى الأصباغ والعطر تتأنق في الاختيار وتفتتن في التطرية، وامتد خيالها إلى الثياب يخصها بعناية منه وفن، وأبوها رجل فيه الثراء والبذل. فبدت الفتاة في روعة الجمال وجمال الذوق وسمو الفن وخفة الظل، فتنابهتا الأبصار والقلوب وهي في شغل لا يعنيها إلا أن تكشف عن زينتها وروائها لتسمع كلمة إطراء تنفث فيها النشوة أو عبارة تبعث فيها الغرور.
وجلست (علية) حيناً إلى المرآة تحدثها وتستشيرها، ولكن قلب الفتاة الطموح كان يرنو إلى ما وراء المرآة، فما لبثت أن ضاقت بحديث المرآة فامتد بصرها إلى النافذة تريد أن تفزع من وحدة الحجرة إلى أنس الشارع، فما راعها إلى أن ترى في النافذة المقابلة شاباً يجلس إلى المرآة يحدثها حديثاً ضاقت هي به. . . يحدثها حديثاً طويلاً لا يحس فيه الملل ولا الضيق، فتعلق به بصرها. . . والتفت الشاب فرأى الفتاة تحدق فيه فبدت له روعة الجمال وروعة الزينة، فتعلق بها بصره.
وأحست الفتاة في نظرات الشاب معاني تشبع نهم غرورها وتطفئ غلة أنوثتها، فاطمأنت إلى ابتسامته وسكنت إلى تحيته، وراحت تبادله ابتسامة بابتسامة، وتحية بتحية؛ وبينهما من الشارع ومن التقاليد حجاب لا يستطيع واحد من أن يظهره.
لقد كان (بهاء) شاباً في زهرة العمر وجمال الحياة، يتأنق دائماً في زينته وفي لباسه، وكان لا يحس وطأة الحياة ولا يضيق بتكاليف العيش رغم أنه موظف صغير لا يبلغ راتبه إلا بضعة جنيهات؛ فهو أعزب، يسكن حجرة ضيقة رخيصة لا تنضم إلا على فتات من الأثاث، وهو يقنع بالوضيع من الطعام والتافه من الشراب ليوفر لنفسه زينته وألقها، وهو يعيش على نهج الصعاليك من العزاب لا يعنيه إلا أن يبدو أمام الناس في الغالي من اللباس