ولطالما جلس إلى المرآة يهيئ نفسه للشارع مثلما تفعل الفتاة لا هم لها إلا أن تفرط في الزينة أو تبالغ في التطرية. فلما رأى (علية) ترمقه من خلال النافذة تعلق بها بصره وتشبث بها قلبه.
وانطوت الأيام والفتاة تغدو وتروح إلى النافذة ترنو إلى فتاها من ثنايا الشباك، والفتى لا يبرح مكانه إزاء الشباك كأنه جدار أسند إلى جدار. وضاقت الفتاة بهذا الستار الكثيف المنسدل بينها وبين فتاها حين أحست بهوى الشاب ينسلب إلى قلبها برفق ولين؛ وطمعت أن تجلس إليه ساعة من زمان علها تسمع منه أنشودة من أناشيد الغزل الذي يصبو إليه قلب كل أنثى، أنشودة يوقعها شاب على أوتار قلب فتاة؛ أو تطرب إلى لحن من ألحان الغرام يترنم به في رقة فتنتشي له عواطفها وتهتز مشاعرها. . ضاقت الفتاة بهذا الستر فدست إليه من يدفعه إلى أن يتعرف إلى أخيها الأكبر فيجد السبيل إلى الدار. . . إلى (علية)، وتستطيع هي أن تراه وأن تجلس إليه على حين غفلة من أهلها.
ومرت الأيام فإذا (بهاء) صديق أخيها الأكبر، بزوره أصيل كل يوم ويرافقه في نزهاته ويعينه على حاجاته، وسعدت الفتاة بما كان وسعد الفتى.
وطارت الشائعات تقول إن (عطية) قد خطب (علية) إلى أبيها.
وعطية فتى من ذوي قرابتها خشن المجس قوي الأركان وثيق التراكيب، وهو عامل في مصنع، يقضي نهاره في الجهد العنيف لقاء دريهمات لا تسد خلة ولا تدفع غائلة. ولكن والد الفتاة رضي به زوجاً لأبنته. وما كان الأب أن يرد فتى من ذوي قرابته يبذل غاية الطاقة ويستفرغ منتهى الجهد ليكسب قوت يومه، فهو نفسه نشأ - في صباه - نجاراً صغيراً يعاني شظف العيش وشدة الفاقة، فما زال يرغم نفسه على الدأب ويحملها على الجد حتى أصبح الآن - صاحب (ورشة) كبيرة تدر عليه الآلاف والآلاف.
وجاءت الأم تزف البشرى إلى أبنتها (علية) وفي رأيها أن الفتاة ستهتز للخبر فرحاً وتطير له حبوراً، ولكن ما راعها إلا أن ترى في أبنتها الإباء والرفض، وغلا أن تلمس فيها روح الكراهية والبغض، وإلا أن تشهد وقع الخبر عليها عنيفاً وقاسياً. وكيف ترضى الفتاة المدللة بهذا العامل الفقير وهي تراه يدلف إلى الدار بثياب مهلهلة قد لوثها آثار العمل وعاثت فيها