للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يد الأقذار، فإن حاول أن يتأنق في لباسه بدا مضطرباً يختلج في ثياب فضفاضة لا تتسم بسمة من الذوق ولا سمة من الفن؟ كيف ترضى به ومن أمامها (بهاء) وهو فتى رقيق جذاب يتألق في شعره المرجل الناعم وفي عطره الفواح وفي رباط رقبته الزاهي وفي بذلته النظيفة المنسقة وفي حذائه اللامع وفي حديثه الرقيق وفي. . .

وحاولت الأم جهدها أن تحمل الفتاة على أن تنزل عند رغبة أبيها أو تلقى السلم لرغبة ذويها، فما أفلحت. . .

وجلست الفتاة - ذات يوم - إلى فتاها، تقص عليه قصة عطية وتستثير همته ورجولته وتنفث فيه سموم الأنثى عبرات تتدفق حرى وباردة على خديها لتدفعه إلى غاية. وأسهل الفتى وانقاد إلى أبيها يخطبها فما تأبى الأب ولا تعوقت الأم.

وخرج (عطية) من الدار يجر أذيال الخيبة، وفي قلبه حسرة ما تنطفئ.

وتعقبت الأيام تشيد داراً صغيرة يسعد فيها زوجان وثلاثة أطفال.

وشعر الزوج (بهاء) بأن حاله قد استحالت إلى أخرى فهو لا يطمئن إلا إلى جانب زوجته، ولا يهدأ إلا إلى جوار أطفاله ولا يسكن إلا في كنف الدار، غير أن أمراً واحداً كان يحز في نفسه فيعكر عليه صفاء الدار ويسلبه رونق السعادة بالزوجة والولد؛ أمراً كان ينزع عنه - دائماً - القرار والهدوء: فهو كان يشعر بضيق ذات يده يمسكه عن أن يسد حاجات الدار وعن أن يشبع رغبات المدرسة. لطالما أصابه العنت والضيق مما يحس من فاق وعسر، ولكن زوجته كانت تسري عنه بعض أتراحه بكلمات جوفاء لا يلمس فيها روح التضحية ولا معنى الوفاء. وأخذ الغلاء يطحنه بين فكين من جفاء وقسوة، فجذب ابنته الكبرى من المدرسة لتعمل ممرضة في مستشفى فما أفاد شيئاً، وشعر كأن عيوناً كثيرة ترمقه شزراً وكأن قلوباً حبيبة إلى نفسه تخفق بالازدراء والاحتقار، فضاقت عليه الدار بما رحبت وتبخرت السعادة من أركانها، وتألق الهم في فودية شعرات بيضاء لامعة وارتسم الأسى على جبينه خطوطاً غائرة.

وعز عليه أن يبدو أمام أحبائه يسربل بالضعة والعجز، فامتدت يده إلى أموال الدولة تختلسها ليسد خلة أو يوفي ديناً.

وتيقظت عبن الحارس على يد تمتد في صمت فكبلها بالحديد، وساقها إلى ساحة القضاء؛

<<  <  ج:
ص:  >  >>