إذا قدر للأندلس أن يكتب تأريخها الفني والاجتماعي، فلا شك أن أنضر صفحة في ذلك التاريخ المجيد وأعجبها تكون صفحة أبي الحسن علي بن نافع المغني الملقب بزرياب. فهو رجل استطاع وحده أن ينقل أمة بأسرها من حال البداوة إلى حال الحضارة، وذلك بشيئين اثنين: تحبيب الموسيقى إليها، وتنظيم حياتها اليومية.
فتح المسلمون الأندلس في العقد الأخير من القرن الأول الهجري، وانتشرت قبائلهم العربية والبربرية في بسائطها وحزونها ولكنهم ظلوا حتى أواخر القرن الثاني بداة جفاة كلما اجتمعت كلمتهم لم يلبثوا أن تفرق بينهم الإحن والعداوات المنبعثة عن العصبية القبلية، فكأنهم لا يزالون ضاربين في هضاب نجد وسهول تهامة ومفاوز إفريقية. ثم أخذت شؤونهم السياسية تستقر وتتسق بفضل مجهودات المتقدمين من أمراء الدولة الأموية الأندلسية: عبد الرحمن الداخل، وهشام، والحكم، وعبد الرحمن الأوسط. أما الأحوال الاجتماعية فظلت على ما كانت عليه فسادا واضطرابا.
وعلى العكس من ذلك كان المشرق الإسلامي في ذلك الزمان فقد إستبحر فيه العمران وبلغت المدنية الإسلامية فيه غايتها، وتعلق فيه ذوو الدعة واليسار بأسباب الكمال من شؤون الحياة، بعد أن استكملوا الضروري، والحاجي منها على حد تعبير ابن خلدون. وقد ساعفهم في ذلك عامل الدين وعامل التاريخ معا. فأما المعتدلون منهم فكانوا يستندون إلى أن الدين الإسلامي دين يسر يحب من المؤمن أن يكون هينا لينا موفور الحظ من الظرف والكياسة غير فظ ولا غليظ القلب، ولا ناسٍ نصيبه من الدنيا. وأما المتطرفون فوجدوا في تقاليد الفرس والروم الاجتماعية ما جعلهم يؤثرون العاجلة ويحرصون على لذة الحياة الدنيا ومتعها، أياً كانت الطرق الموصلة إليها.
وقد تألفت من هؤلاء طبقة أرستقراطية، مرهفة الأذواق، رقيقة الطباع، ترى في الموسيقى، ومجالس الأنس والطرب، وحفلات السمر خير ما ينقعون به غلة تلك الأذواق