المرهفة والطباع المترفة. هذا هو السبب المباشر في تقدم صناعة الغناء في ذلك الزمان، وبلوغها الغاية على أيدي إبراهيم المهدي، وإبراهيم الموصلي، وأبنه إسحاق. وهذا هو السبب كذلك في استفاضة مجالس الأنس والطرب لذلك العهد في مدن الشرق الإسلامي عامة وبغداد خاصة، وفي بلوغ هذه المجالسدرجة من التأنق يمكن تصورها إذا عرفنا أنهم وضعوا لها آدابا كانوا يأخذون بها من الندماء، والجلساء، والسمار.
من ذلك أن يكون الغناء قوامها، وأن يحتفل لها بلبس الثياب المصبغة الأنيقة، وأن يزين المجلس بالأزهار والرياحين، وألا يحضرها إلا من كان مهذباً، خفيف الروح، حاضر البديهية، قادراً على قول الشعر وارتجاله، فضلا عن تذوقه وروايته عندما يقتضي المقام ذلك.
إلى هذا المشرق اتجه أمراء بني أمية الأندلسيون، وهم أبناء خلائف دمشق ورصافتها، يستهدونه فنانين ومعلمين يهذبون ما غلظ من طباع العرب والبربر والمولدين، وينظمونها جميعاً في نسق واحد. وقد أهدى المشرق إلى المغرب غير واحد من المغنين أمثال علون، وزرقون، ولكن زرياباً كان أعظم هؤلاء جميعاً وأبعدهم أثراً.
كان أبو الحسن علي بن نافع مولى للخليفة المهدي العباسي، ولسواد لونه، وحلاوة شمائله لقبوه بزرياب تشبيها له بطائرأسود غريد يعرف عندهم بهذا الاسم. وقد تكاملت لزرياب كل أسباب النبوغ والتفوق موهوبها ومكسوبها، فكان شديد الذكاء، لطيف الحس عارفا بالنجوم والجغرافية، شاعراً فصيح اللسان، غير أنه كان إلى الغناء أميل وبه أشغف، وقد درسه علماً في كتب الأقدمين من حكماء اليونان، وعملاً على أستاذه اسحق الموصلي زعيم المغنيين في ذلك الوقت، ولشدة افتتان زرياب بالموسيقى كان تفكيره فيها لا يكاد ينقطع حتى أنه ليلهم النوبة والصوت وهو نائم، فيهب من نومه مسرعاً، ويقيد ما وقع له أو يلقيه على جاريتيه غزلان وهنيدة، ثم يعود إلى مضجعه عجلا، ومن ثم قيل انه كان يأخذ ألحانه عن الجن كما قيل في إبراهيم الموصلي نفسه. قالوا وكان يحفظ عشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها. ولم يأل زرياب جهداً في أن يأخذ نفسه بالأدب الرفيع والسلوك العالي المصطلح عليه في البيئة التي كان يعيش فيها ببغداد، بيئة البلاط وقصور الأمراء ورؤساء الدولة العباسية.