في عصر يوم من الأيام نحو عشرة أعوام ذهبت لزيارة المرحوم. والدي - كما كنت أفعل دائماً - بمنزله الخاص بالزمالك حيث كان يسكن وحيداً بين كتبه معتزلاً العالم. دخلت عليه في حجرة عمله فوجدته أمام مكتبه بين أكوام من الكتب والدفاتر - شأنه دائماً - يطالع ويقيد. فلما أحس بوجودي رفع رأسه وأزاح نظارته (الخاصة بالقراءة) ودعاني إلى الجلوس. ووقع نظري على صورة لقبر إسلامي كانت ضمن الأوراق العديدة التي يزدحم بها مكتبة. فسألته، فابتسم وقال: هذه صورة قبر الشيخ طنطاوي المدفون في روسيا. وعجبت لأمر هذا الطنطاوي الذي اختار بلاد الروس مدفناً له. فاستوضحته الأمر. فأخذ يحدثني عن هذا العالم المصري الذي نزح إلى روسيا في العصر الماضي ليدرس اللغة العربية وآدابها في جامعة بطرسبرج - كما كان اسمها في ذلك العهد - وكيف أقام فيها حتى وافاه الأجل فدفن بها. ثم كيف قام اليوم من بين الأساتذة المستشرقين من يعنى بهذا العالم المصري فيحقق أمره ويؤلف رسالة عنه تخليداً لذكراه.
واستهواني هذا الحديث، وجعلت أنظر إلى الصورة وأنا معجب فخور بهذا الأستاذ المستشرق الذي انبرى لعالم من علمائنا المنسيين ينشر حياته على الملأ ويشيد بذكراه. فينشر معه صفحة من صفحات تاريخنا المغمور ويشيد بذكرى بلادنا بين أصدقائنا البعيدين. ورفعت رأسي ونظرت إلى والدي مستفهماً. فقرأ في عيني ما يجول بخاطري وقال:
- إن صاحب هذا البحث هو الأستاذ كراتشكوفسكي الروسي
في هذه اللحظة أحببت الأستاذ كراتشكوفسكي وشعرت في صميم قلبي بأنه ليس غريباً عني. وشاهدت صورته فيما بعد فراعني منها مسحة الوقار المنطبعة على محياه، وذلك الإشعاع العجيب الذي يشع من عينيه - إشعاع الطيبة والإخلاص. واتصلت بالأستاذ عن طريق المراسلة، فعرفت فيه رجلاً ذا خلق متين وعزيمة صادقة وأدب جم، فقد وهب حياته منذ نحو ثلاثين عاماً لخدمة اللغة العربية وآدابها. فلم يهن ولم يتراجع بل ثابر وثابر حتى امتلك ناصيتها وتبحر فيها، فأصبح علماً راسخاً من أعلامها؛ وقوة من قواها العتيدة.