وإني لا أنسى أول خطاب جاءني من الأستاذ، فقد وقفت أمامه حائرا مبهوتاً: خط عربي جميل ونظيف يماثل في وضوحه وتنسيقه خطوط الآلة الكاتبة. تسوده روح لطيفة من سلامة الذوق في التعبير والبساطة والهدوء. كل ذلك في سلاسة عجيبة وصفاء غريب. وغمرني شعور لطيف فيه شيء من الزهو لوجود مثل هذا الصديق الكبير لنا - معشر العرب - في بلاد نائية قد وقف حياته على خدمة آدابنا وإعلاء كلمتنا.
وازداد اتصالي بالأستاذ فتوالت الرسائل بيني وبينه. وأهدى إلى كثيراً من مؤلفاته بالروسية، ومضت الأعوام ومعرفتي بالأستاذ تزداد اتساعاً. وكلما عرفت عنه شيئاً جديداً قويت محبتي له وعظم تقديري إياه.
بدأ الأستاذ دراسته للعربية وبعض اللغات السامية الأخرى كالحبشية والعبرية في جامعة بطرسبرج عام ١٩٠٨. ثم رحل إلى الشرق فزار مصر وسورية، وأقام فيهما أكثر من عام انكب أثناءه على دراسة الأدب العربي القديم والحديث. واهتم بالشعر وعلم البيان بنوع خاص. وما إن عاد إلى روسيا حتى أخذ ينشر مقالات عن الأدب العربي. وظهر له بحث مستفيض عن القصة التاريخية في الأدب الحديث وهو بحث نقدي تحليلي عن روايات جورجي زيدان ويعقوب صروف وفرح أنطوان وجميل مدور. (صاحب كتاب حضارة الإسلام في دار السلام) وتوالت بعد ذلك أبحاثه القيمة. ومن أعماله المشهورة إصداره ديوان أبي الفرج الوأواء الدمشقي باللغة العربية مع ترجمة روسية ومقدمة مسهبة عن الشعر في العصر العباسي تعد من أنفس ما كتبه العلماء في ذلك الموضوع؛ كذلك يجب ألا ننسى بحثه التاريخي عن حياة الشيخ طنطاوي، وهو بحث فذ مبتكر حقق فيه بطريقته العلمية المعروفة كثيراً من النقاط الغامضة التي تكتنف حياة هذا العالم المصري (المنسي). ومن أعماله الهامة إصداره كتاب البديع لابن المعتز باللغة العربية مع مقدمة للكتاب بالإنجليزية، وهذا الكتاب يعد من أنفس الكتب التي عالجت علم البديع في الأدب القديم. هذا خلاف رسائله الأخرى التي والى ويوالي إصدارها، وآخر ما صدر له ترجمة بالروسية لكتاب الأيام للدكتور طه حسين، مع مقدمة عن مؤلفات وتعليقات عن الكتاب.
أكتب هذه الكلمة الصغيرة بمناسبة الاحتفال بتكريم الأستاذ في روسيا أحييه فيها أصدق تحية، معبراً له عما يكنه العالم العربي عامة والأمة المصرية خاصة من عواطف الولاء