للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[رجال من دمشق:]

١ - الشيخ كمال الخطيب

للأستاذ علي الطنطاوي

رجل كان فذاً بين الرجال، لا ترى مثله العصور الطوال، وإذا كان الرجل المهذب كالنسخة المطبوعة من الكتاب، كان الشيخ كمال نسخة مخطوطة مفردة، وقد يكون في المخطوطة خرم أو نقص - أو يكون على صفحاتها أثر من دهن أو بلل، ولكن مع ذلك أثمن من المطبوعة، وإن كان ورقها نظيفاً، وطبعها متقناً، لأن هذه واحدة في الدنيا، ولأن من تلك آلاف الألوف.

كان الشيخ كمال بقية عصر مضى - ولكنه أبى أن يمضي معه، فعاش في القرن الحاضر، كما كان في القرن الماضي، فكان تحفة في (متحف)، ولكنها تمشي، وصفحة من (تاريخ)، ولكنها تتكلم. وكان بطلاً في جسم عجوز، وغنياً في ثياب سائل. وكان فكرة استحالت رجلاً، ومثلاً أعلى سوى إنساناً. ولكل منا مثل أعلى، يتمثله إذا انفرد بنفسه، - أما مثل الشيخ الأعلى فهو أعماله التي يعملها. ولكل منا أفكار يفكر فيها إذا خلا بعقله، أما أفكار الشيخ فهي كلماته التي يقولها. وكل منا يعرف حقائق الناس ومثالبهم وعيوبهم، ولكنه يكتمها عنهم؛ أما الشيخ فكان يقول لكل إنسان ما يعرفه عنه - لا يستثني من ذلك أحداً من الناس أبداً. وليس الذي بالشيخ ما يسمونه الصراحة أو الوقاحة بل هو شيء لا أعرف له اسماً لأني لم أجده عند شخص آخر: يقول لكل رأيه فيه بأوضح عبارة وأقصرها وأشدها، ثم يمشي لا يريد جلب منفعة أو درء مضرة، ثم يحبهم مع ذلك الناس كلهم، ويحترمونه، ويخافونه: رجال الشعب ورجال الحكومة، والعلماء والجهلاء، والأغنياء والفقراء، لا يسلم من لسانه أحد، ولكن لا يكرهه أحد. ولم يكن يبالي حبهم ولا كرههم، ولا يحفل بإكبارهم ولا احتقارهم، لنه يعيش في نفسه من عالم، غاية مطلبه من الدنيا قماش يستر عورته، ولم أقل جبة ولا رداء، لأنني لم أكن أدري ما كان يلبس على التحقيق: أجبة غيرها طول البلى حتى صارت من قصرها وثنيها كالرداء، أم رداء أبلته الأيام فصار كالجبة؛ وشيء يملأ جوفه، سواء أكان هذا الشيء خبزاً يابساً أم كان أرزاً ولحماً؛ ومكان يضع عليه جنبه: سريراً أو فراشاً أو قطعة ممهدة من الأرض الفضاء، فإن وجد ذلك لم يطلب شيئاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>