يلومني بعضهم لتنويهي في كل مناسبة بفضل علماء المشرقيات في الغرب على حضارتنا وآدابنا، ولقولي إننا كنا نجهل كثيراً من علم أمتنا ومدنيتها لو لم يقم الغربيون يحيون كتب العرب منذ القرن السادس عشر من الميلاد؛ حتى طبعوا منها خزانة عظيمة بإتقان وضبط، مل برحت الدارسين والباحثين، وإذا أشرت إلى علماء أمتي بالجري في طريقة أولئك العاملين، فهناك الامتعاض، وهناك الغمز واللمز، وهناك الأعذار التي لا مبرر لها.
أنا لا أجادل إلا بإيراد مثال واحد على صحة مدعاي، والأمثلة متوفرة كثيرة. هذا الأستاذ كرنكو الألماني لم يجد منشطاً من دولة، ولا من جامعة، ولا من جماعة؛ ومع هذا طبع نيفاً وعشرين كتاباً من كتبنا لخدمة العلم والحضارة العربية. وترجمة الرجل طريفة عسى أن يكون في نشر طرف منها بعض العبرة لقومي، وألا يثقل عليهم إذا قلنا إنهم مقصرون عن اللحاق بغيرهم
ولد (فريتس كرنكو) أو (سالم الكرينكوي)، كما سمى نفسه بعد في قرية شونبرغ في شمال ألمانيا، وتعلم مع لغته الألمانية، وكان شاعراً، اللغات الإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليونانية، فأتقنها اتقاناً جيداً، ثم بدأ وهو صبي يافع يتعلم اللغات الأوربية الأخرى واللغة الفارسية، وتعلم طرفاً صالحاً من الحميرية والعبرية والآرامية والتركية، ثم رحل إلى إنجلترا واشتغل بالتجارة حتى أسس مصنعاً للأقمشة في (لستر) كان يشغل فيه أكثر من ألف عامل وعاملة، ولم تفته مع كثرة أشغاله العقلية ساعة إلا طالع فيها الكتب العلمية، وسما له شوق إلى درس آداب العربية والحضارة الإسلامية، ولا سيما ما كان له علاقة بأوائل الإسلام والقرون التي سبقته، فتعلمها وأتقنها حتى أصبح يكتب فيها ويؤلف مثل أبناء العرب.
وفي الحرب نكب بفقد وحيده، ثم بخسارة كبرى في تجارته حدث به إلى تركها في سنة ١٩٢٧. وتفرغ بعد ذلك للعلم، وهو اليوم يعرف لغات أوربا وثلاث لغات من لغات الشرق: العربية والفارسية والهندية معرفة جيدة، ودروس اللغات الأخيرة في الكتب من أستاذ، وهو اليوم لا منصف له يعيش براتبه، وماله مال أمثاله ممن يحترف الأدب، ولما