للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

اليابان تلقي على الشرق درساً

للأستاذ محمد مختار المحامي

جاء في الصحف اليومية منذ عهد قريب أن مصانع اليابان أخرجت سيارات زهيدة الثمن في طاقة كل شخص أن يقتنيها وهي تريد أن تغمر بها أسواق العالم، وقد كان لهذا الخبر رجة عنيفة في جميع الدول، فقد أوقعها في حيرة شديدة إزاء هذا التيار الجارف الصادر من أقصى الشرق.

منذ نصف قرن تقريباً استيقظت اليابان من أحلامها، وبخطوات العمالقة اقتحمت الهوة التي تفصلها عن الحضارة الغربية الحديثة فتركت وراءها قروناً غطت فيها في سبات عميق، ورفعت الحجاب عن أعين الشرق ونبهته إلى الحقيقة التي غابت عنه، وأظهرته على باطل ما يلقي إليه المستعمرون من أن الشرق يعيش في الماضي، وأن من المحال إحياءه وجعله يسير في طريق التقدم لأن وجهه دائماً إلى الخلف، وقد قبلنا هذا الاتهام وآمنا به، وفعل فينا فعل التنويم المغناطيسي إلى أن أتت اليابان ففكت طلاسم هذا السحر، وكنا قد نسينا أن نشأة الفلسفة والعلم والآداب وكل أديان العالم لم تكن إلا في الشرق، فكيف تتهم أراضيه بالعقم وعقوله بالخمود، وهي التي قد حملت مشاعل الحضارة وقت أن كان الغرب يتخبط في الظلام؟

لقد دهش العالم أيما دهشة حين حطمت اليابان الحواجز التي كانت تحجزها عن العالم بين يوم وليلة، ثم خرجت منتصرة أيما انتصار، فقد فعلت ذلك في وقت قصير كالوقت الذي تغير فيه الثياب، لا الوقت الذي توضع فيه أسس حضارة جديدة، وقد أظهرت أصدق مظاهر قوة الخصب والقدرة على العيش في هذه الحياة الجديدة، فقيل إن هذا الانقلاب ليس إلا مسخة من مسخ التاريخ، أو فقاعة كفقاقيع الصابون كاملة في استدارتها ولونها، جوفاء في قلبها ومادتها. ولكن اليابان أثبتت أن تطورها لم يكن لحظة دهشة قصيرة، أو فرصة من فرص مد الزمن وجزره.

الحقيقة أن اليابان قديمة وحديثة في آن واحد، فهي لم تترك تراث الشرق القديم وثقافته التي تدفع الإنسان إلى البحث عن القوة والسعادة الحق في أصل نفسه والتي توحي إليه برباطة الجأش عند مواجهة الخسائر والأخطار، وبالتضحية التي لا تحسب حساباً للكسب

<<  <  ج:
ص:  >  >>