للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الوهم]

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أكثر ما يقعد الإنسان عن الطلب، أو يصده عن السعي أو يصرفه عن الإقدام، وهي لا حقيقة؛ وقل أن يقدم الذي يطول تفكيره ومشاورته لنفسه؛ ويندر أن يفوز بالطيبات في هذه الدنيا إلا الجسور أو (الفاتك اللهج) كما يقول بشار، أي الذي لا يتردد ولا يضيع الوقت والفرص في الموازنات والمعادلات وحساب العواقب والمغبات.

تكون مع المرأة التي تحبها، فتحدثك نفسها أن تبثها ما تجد، أو على الأقل أن تثني على جمالها أو ذوقها في اختيار ثيابها. فتتردد مخافة أن يسوء وقع ما تقول في نفسها وان تعد ذلك منك تسحباً واجتراء عليها، فتحجم، وتمتعض هي، لأنك خيبت أملها فيك ورجاءها عندك. وقد لا تحب المرأة الرجل، ولكنه لا يسوئها منه أن تعترف أن يحبها، ولا يثقل عليها أن يثنى بما يعلم وما يتخيل أيضاً؛ والمرأة تنتظر من الرجل أن يشعر بجمالها وأنوثتها قبل أن يشعر بعقلها أو علمها أو أدبها أو غير ذلك مما يجرى هذا المجرى. وكثيراً ما تقرأ لي الفتيات ما يكتبن أو ينشدنني ما ينظمن، حتى إذا فرغن من التلاوة تعمدت أن أهمل ما سمعت منهن وذهبت أصف لهن ما وقع في نفسي من صوتهن وهيئتهن وهن يقرأن، وكيف كان النسيم يعبث بذلاذل الثوب ويكشف عن سيقانهن البضة، وكيف أن خصورهن كن يغرين بالتطويق، وشفاههن وهي تتحرك وتلتقي وتفترق، وتختلط من فرط الأثر بالمعاني المصورة في الكلام، تحمل على اشتهاء القبلات الطويلة، ولا أراهن يغضبن لذلك أو يتجهمن، أو حتى يتكلفن العبوس والقطوب، بل تشرق وجوههن ويشيع فيها البشر، وتومض عيونهن وميض الجذل والاغتباط والرضى، وأنا أفعل ذلك لأسرهن وأشرح صدورهن لأهرب من إبداء الرأي في كلام لا أرى فيه قيمة أو وزناً فننتقل بسهولة إلى حديث آخر نخوض فيه، وتطوى الورقات وتدس في الحقائب، ونحن نسح بالكلام، ثم ينصرفن راضيات مسرورات شاكرات، وأبقى أنا أو أذهب، ولا أكون قد رددت نفسي على مكروهها.

وقد جربت الناس فلم أجد ما يريح مثل الاجتراء عليهم. كنت في بعض ما مر بي مضطراً إلى الاتصال في عملي برجل سريع البادرة عظيم الغرور متقلب الرأي فلا راحة لإنسان

<<  <  ج:
ص:  >  >>