للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في رأس السنة الهجرية]

معنى الهجرة

للأستاذ علي الطنطاوي

. . . مشى (عبد الله) حذراً، يتلفت إلى الوراء خشية أن يراه بعض سفهاء قريش، فيقطعوا عليه سبيله، فلم ير أحداً، وكانت طريق مكة خالية لأن الناس قد أموا الحرم ليجلسوا في مجالسهم كعادتهم في كل مساء فاطمأن وسار قدما، حتى إذا خرج من مكة وجاوز الحجون، واتسع الوادي أمامه وانفرج، صعد الجبل يأخذ طريقه إلى الغار؛ ونظر. . فراقه منظر الغروب. على هذه السفوح والذرى، وأحس بجلال الموقف، وأخذ عليه نفسه هذا الصمت العميق، وهذه الصفرة التي تعم كل شيء، فنسي غايته ووقف ينتظر. . رأى مكة تلوح أبنيتها من فرجة الوادي، وتبدو الكعبة قائمة في وسطها، والأصنام التي تحف بها تظهر على البعد كأنها لطخ سود. . فذهب به الفكر سريعا إلى ذينك الرجلين اللذين تركهما صباحا في الغار. وذهب يتحسس لهما خبر قريش. ويعلم علمهما. ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأباه الصديق. . فخاف أن يكون قد أصابهما شر، فاغمض عينيه عن هذه المشاهد، ومضى في طريقه وهو يتعجب من قريش حين زهدت في المجد والظفر، وآثرت هذه القرية الجاثمة بين هذين الجبلين كأنما هي مخبوءة في صندوق من الصخر، على السهول والجنان والمدائن التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقودها إليها وانصرفت عن الراية التي دفعها إليها محمد، لتسير بها إلى أرض النخيل والأعناب فتركزها في دمشق والإسكندرية، وعلى إيوان كسرى. وفضلت عليها رايتها التي لم تتعود الخفق في سماء المعارك الكبرى، ولا ألفت الاهتزاز على أسوار المدن المفتوحة. . لقد عرض محمد على قريش أن تعطيه هذه الأصنام ليكسرها. ويعطيها بدلا منها ملك كسرى وقيصر، ويعطيها العقل المبدع، والقانون العادل، والعبقرية والخلود، فأبت، وعكفت على أصنامها وتماثيلها. . فما أعجب عقل قريش!

ونظر إلى مكة مرة ثانية، فإذا الظلام قد لفها بردائه، ثم ابتلعها ولم يعد يبدو منها إلا بصيص من النور فخالط نفسه سرور مبهم، وشعر بزوال هذا الخطر القرشي، واستروح رائحة الظفر، فامتلأ قلبه أملا، وجعل يجيل بصره في الأفق الواسع، فيخيل إليه أنه يرى

<<  <  ج:
ص:  >  >>