للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

راية محمد ترقص على هام القصور البلق في الشام، والصروح البيض في المدائن. . . فمضى يتسلق الصخور إلى الغار، وهو يقفز قفزاً، يظن من شدة النشاط وقوة الأمل أنه سيطير!

وكانت الجزيرة يومئذ تتمخض بالموجة الكبرى. . . ولطالما ماجت هذه البرية القاحلة التي تلتهب في أيام الصيف التهاباً، وهذه الرمال التي تسلسل إلى غير ما حد، ففاضت على أرض العراق الشام وكانت منبع الحياة. لقد كان ذلك، والتاريخ جنين في بطن العقل البشري لم يولد بعد، وكان وهو طفل لا يعي، وكان والتاريخ صبي يميز ويدرك، فرآه فسجله في دفتره. . .

رأى وادي النيل، وحوض الرافدين، يمشيان إلى الخراب، قد نضبت فيهما الحياة، فما راعه إلا موجة تنشأ من الجزيرة، من وسط الرمال، فتقذف إلى مصر بـ (مينا) ليكون أول فرعون فيها، وتلقى ببني كلدة إلى العراق، فإذا هؤلاء الوافدين من أعماق القفز، يفتحون حقائب أدمغتهم، فيخرجون منها الحضارة الأولى، (حضارة البابليين القدماء) قبل الميلاد بستة وثلاثين قرناً

ويكر الزمن، وتدور الأفلاك، فتطحن الناس، وتحطم الحضارة وتطفئ الشعلة، فتنادى العراق والشام يطلبان المدد، وتسمع الصحراء فتتهيأ وتتحرك وتموج موجة أخرى فيقذف إلى ساحل البحرين بأنشط (مجموعة بشرية) عرفها التاريخ القديم، ثم تلقي بها إلى ساحل سوريا لتطل على العالم، فلا تلبث أن تغلغل فيه تحمل إليه تجارتها وحروفها ولا تلبث أن تغدو شريان الحياة في العالم، وتنشئ في كل موضع (مستعمرة فينيقية) هي في الحقيقة مدرسة عالمية، كان من أمهر من تخرج فيها (اليونان)

ولقد ماجت الجزيرة موجات أخرى. . . ولكنها اليوم تتمخض بالموجة الكبرى!

فكر (عبد الله) في هذا وهو يتسلق الصخور، إلى الغار، وكان لطول ما سمع من حديث الإسلام شديد الرغبة في توحيد العرب، وسوقهم إلى إنقاذ أرض الوطن (في الشام والعراق) من الحكم الأجنبي، وكانت هذه الفكرة جديدة لم يعرفها العرب، أثمرتها في رأس (عبد الله) الدعوة التي استجاب لها، وآمن بها، واستسلم عبد الله إلى أفكاره، وأطلق لها العنان، وشمل العالم كله بنظرة واحدة، فرآه ينتظر شعباً جديداً طاهراً لم تدنسه تلك الحضارة الزائفة، حراً

<<  <  ج:
ص:  >  >>