والآن أراني أجملت إبراز الاتجاهات الاجتماعية والعوامل التي تؤثر في الآداب الحاضرة فأين نجد في أدبنا في غابره وحاضره وكيف يتجه؟
كنت أود أن يتسع لي المجال أو أن يرجأ البحث عن اتجاهات أدبنا في الغابر إلى فرصة ثانية، لأن التكلم عن اتجاهات أدب مهما كانت قيمته ليس بالشيء الذي يغني فيه الإلمام، ولكني ناظر إلى ناحية من نواحيه الاجتماعية القومية، وغير خائض في خصائصه الأدبية.
إن أدبنا أيها السادة كان كثير الخصب والإنتاج؛ وتبارك الله ما كان أخصبه! ولكن خصبه في الموضوعات التي نثب إليها اليوم كان خفيفاً جداً. خذوا الشعر مثلاً، والشعر أبرز ما راج في أدبنا، فهو شعر لا أجده قد صفا كثيراً لنفسه ولا لمجتمعه. نما بعضه في جو أرستقراطي لا يتصل بسواد الشعب، نما في ظلال الطبقة المترفة؛ وإذا غادر هذا الجو غادره إلى جو كان يرائي الأديب فيه ويداجي. أما المجتمع فلم يقم له أدب خاص يعبر عنه. وإذا أفاد بلاط الملوك والأمراء في نمو بعض الأدب الذي كانت تستحثه الدعايات والعصبيات فقد قتل ذلك الأدب الذي كان يجب أن ينطلق عن الحياة. وهذا المتنبي على جلاله وهو الذي يعد أحد الشعراء مزاجاً وأكثرهم اندفاعاً لم يخلص من أدب الرياء. وهذا المعري الذي يطفح شعره ببعض نظرات متألمة لا نجد أن تألمه كان نتيجة اختلاطه بالمجتمع، ولكنه كان وليد تشاؤم صرف اختص به مزاجه. ويمكنني القول إن كثيراً من أدبنا خلقته أزمات سياسية وعصبية ليكون ضرباً من ضروب الدعاية. ولكنه كان مجرد دعاية تؤرث نار العداوة، وتعبر عن نوازي العصبية في الأحزاب والقبائل وتحيي الضغائن في الأمة الواحدة. على أن أزمة الشعوبية التي احتدمت نارها بين الأعارب والأعاجم كان بها أن تخلق نوعاً قوياً من أدب الدعاية القومية ولكن الأدب لبث يمالئ الأوساط المترفة، ينظم لها الشعر مسبحاً بحمدها، أو مسلياً لها من مللها وسأمها.