كذبت على الله وعلى نفسي حين زعمت أني معجب بالسمراء وأني لا احب الثوب الأزرق. . لا والله. . فما أبالي السمراء ولا إعجاب لي بها. وكل ما في الأمر أنى رايتها كثيرة المرح فراقني أن تتلقى الحياة هاشة باشة، وأن تضحك للدنيا، ولكن هذا قد يكون عن خفة لا عن فلسفة، وأنا مفطور على الجد، ولهذا سهل أن أتعود الاحتشام، ولكن وطأة الحياة ثقلت على كاهل صبري، فأنا لا أزال أتلمس التسرية والترفيه بما يدخل في طوقي من الوسائل، ومن هنا هذا التناقض الذي يراه الناس في طباعي. ولا تناقض هناك فيما اعلم، وأني لكما كنت طول عمري، وإنما اختلفت المظاهر، وأولاي معقودة بأخراي، ولقد كنت في صباي يائساً من الخير والسعادة في هذه الحياة، وأنا الآن اكفر بهما، ولكني كنت في حداثتي يحزنني عجزي عن الاطمئنان إلى الخير فاكتئب وأتجهم وأروح أعذب نفسي واقطع قلبي حسرة، وأغراني هذا بالزهادة ونشدان الراحة - على الأقل - بتوطين النفس على اليأس ورياضتها على السكون إليه، وكنت أقول لنفسي جاداً أني تهالكت فما أفدت إلا الحرمان وإلا الظمأ والالتياح، وإني طلبت اللذات فما وجدت فيها لعاقل غناء. . فلعل الزهادة تحسم داء لم أجد في الطلب شفاء منه. ولكني ما لبثت أن وجدت أن رفض الحياة يزيد المرء إحماءً، وأن الزهد ليس منجي، وأن النفس تخسر به طيبها ورضاها، وأن الذي لا يمد يده ليجني ويقطف لا يحق له أن يزعم أنه حرم الثمار التي يراها علا أفنان الشجرة، وقد لا يفوز الطالب الساعي بكل ما يبغي، ولكنه لاشك خليق أن يظفر بكثير مما هو دونه، فإذا فاتتك الغاية القصوى فقد لا يفوتك ما دونها من المتع، فالطلب أولى، والسعي أوجب، لأن الطلب والسعي من مقتضيات الحياة، والحياة هي الحركة لا السكون ولا الجمود، والزهد قهر للنفس، والطلب فيه كذلك قهر للنفس، وقهر النفس مع إفادة ما يمكن أن يفاد خير من قهرها مع الحرمان، والدنيا تسير على مقتضى نواميسها هي، لا على