في أعماق هذا الجرف الذي تحميه من كل نواحيه أطواد وأصلاد تنام مدينة (سلع) عن كثب من أطلالها وقصورها وخرائبها وينبوعها الثر!
جلس (كريستيا) على عمود رخامي كان جاثماً على الأرض، فجلست (سافو) حياله وطفقا معاً ينظران في ذهلة إلى هذه الروائع الفواتن يحفهما صمت ويغشهما سكون، ويخترق آذانهما هدير الماء ودفعه على الأصنام المتداعية والعمد المنهارة في ظل ظليل من أشجار الغار الواشجة
لم يجرؤ (كريستيا) على الهمس فلقد أمالته الصور البارعة إلى غرق وأنسته ذلك الألم الذي تحيفه خلال طوافه بقنن جبل (حور) ونزوله إلى حدور وادي (العربة) بل لقد ألهته قسطلة الماء في الصعيد المهجور عن أولئك الناس الذين نفروا إلى قتال (قيصر) تحت لواء (فروة بن عمرو) فما عادت صورهم تمر بصدره، وكذلك كان شأن (سافو) فلقد غرقت مثل غرقه وسبحت مثل سبحه، وأنستها هذه الظلال الندية الرخية تلك الثورة التي عصفت بنفسها الرقيقة في ذلك الوادي الذي تتلاقى عند قيعانه وكثبانه طرق (أيلة) والبحر الراعب، فأية فتنة هذه التي هدهدت التياع الملتاعين وحملت إلى النفوس الضارعة بعض العزاء التي تحبه وتأنس إليه
هذه الرائعة ما كانت تعدو ماضي (سلع) ففي هذه الدمن التي يغنيها الماء الدافق الهادر غناءه الشجي من أبعد عصور التاريخ لا تستطيع النفوس الكامدة أن تستبقي حزنها إلى الأبد، إذ لا معدى لها عن استمراء الوحدة والإصغاء إلى حديث حياة منقرضة وإذ هي محمولة على الشرود في جلال الموت وفي روعة السماء