عزيف الجن، يضاف إلى هذه المشاهد الراعبة قبس يخطف على سيناء في أقصى الأفق!
لقد روعته العزلة فتمايد وتمايل، وخيل إليه أن بهذه النجوم الدانية من القلل والقنن عيونا تنظر إليه، ففغر فمه وبرق بصره، ثم تساقطت الشهب في الأبعاد النائية كأنها الحريق الشاعل. فغشيته ذهلة أليمة، وخيل إليه أن السماء قد ألقت إليه بنارها ودخانها فجفا مكانه على القبر وطفق ينادي:(سافو)! لك الله يا أخية أين أنت؟
وهام على وجهه فما ينحدر من رابية حتى يغيب في أخدود ضيق، فإذا حسر الأخدود عنه أمسى في غار مظلم، فإذا أوغل في ظلمة الغار تساقط الماء على ثوبه من صدوع في الصخر النابي فتندى وقَرَسهُ البرد، ثم يخرج من الغار فإذا هو بعد طوفة جاهدة عند سفح الجبل وإذا (سافو) لا تزال على السفح كأنها كانت تتوقع أن تضجره العزلة وتخيفه الوحدة فيأنس إلى إلحاق بها
ورأت (سافو) إليه تحت ضياء العشية فنادته بصوتها الرقيق الناعم: إني أخاف عليك برد الجبال فهلم فاتبعني إلى (سلع) فلعلك تجد عندها ذلك القبس الذي يضرم شعورك
وكان الانحدار إلى (البتراء) سائغا ولذيذا فأحوتهما معاً طريق قديمة نقرت في الجلامد فأوغلا فيها، وأظلتهما حجارتها، الناعمة الملساء، وتراءت لهما في اليمين وفي الشمال أسوار حمراء بلون العقيق، ولكنها أسوار عظيمة لم تتحيفها غلظة ولم تتخللها قرون وشعف، فجازا الطريق إلى الوادي وطلعت عليهما غيران ضيقة ولكنها قصيرة، ثم إذا هما يخرجان إلى طريق تدفع إلى دغل تكاثفت على حضيضه النباتات فسلخا في اجتيازها ساعتين ثم طلعت عليهما قبور (سلع) الأولى
ولم تكن سلع قد أطلت عليهما بعد، فلقد وارتها حوائط من الحجر الصلد فارتدا إلى ناحية الشمال وفزعا إلى الجانب المظلم من صخور لا تضيئها أنوار المساء، ورأيا إلى القبور المحفورة وقد تراكب بعضها فوق بعض وفتحت أشداقها وحسرت عن ثقوبها فأخذتهما أشعة خفيفة تزلق إليهما من الجبال، وسحرهما أطلال هذا المشهد بعد تلك السياحة الكامدة فأحسا الحياة وطفقا يتأملان معاً في هذه المدافن المعلقة بين السماء والغبراء، وسرهما أن يتعرفا الديار والرسوم والأطلال، ولذهما أن خيالة (سلع) عادت تطوف بصدريهما الراعشين