للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

موسى النبي، وكما مات هارون النبي، ثم هو إلى ذلك شاعر يحب فنه وما يليق بالشاعر أن يموت في الأرض التي لا تتصدع فيها السحب والبروق، ولا يزهر على حواشيها الآس والنعناع والورد

وانهما ليتحاوران ويتساجلان في غير جدوى ولا طائل، إذ حملت أعراف الليلة الساجية ترجيع الأبواق في وادي (سلع) فرجفا معاً. وقالت (سافو): إنها أبواق (فروة) يا (كرستينا)، وانه المنتصر على (هراقليوس). ناشدتك الله أن تمضي معي أو تبقى لوحدك على هذه القنن

ورأى المسكين وقد اذكره صوت البوق حاضره أن يلحق بها، ولكنه لم يكد يبرح مكانه حتى حفت البروق وتوامضت على مدى واسع فبانت له كرة أخرى جبال (سيناء) وصحراء (التيه) فألاعته الأضواء الغامرة وأحرقت أحلامه، فوقر في ذهنه أن يبقى في جبل (حور) طوال ليله فلا يفارقه ولا يخفره ولا يمل الطواف بشغافه ورعانه، ولا يسأم الهبوط إلى حضيضه وسفحه، نعم انه مريض وإنه مُدْنف وإنه ذلك المنفى الذي يقبس أغانيه من نفس عامرة بالألم زاخرة بالشجن، ولكنه على مرضه ودنفه كان يلذ أعراف هذه الأماكن المقدسة ويرى فيها العافية التي يشتاقها ويحب أن يغني أغانيه في هذه الأصلاد بصوت الشاعر الملهم لتسمعها روابي (سيناء) كما سمعت صوت النبي الملهم؛ وكان يشعر بقرب النهاية فنازعه شعوره إلى المكوث في هذه الأرض حتى يأخذ الله وديعته فيرقد رقاده الأبدي في شعفة تطل على (الأردن) وعلى (حرمون) وعلى (بيت المقدس)!

لقد باح بخواطره، وقال لها إن في (سلع) مكاناً للبطولة الرائعة، وليست تعرف فيه ذلك البطل المقارع فمن حقه أن يجد مكانه على الربى الشم حيث تترقرق أضواء السماء، وحيث ذكاء الشاعر يبحث عن السنى والسناء! فلما سمعت قوله لم تأنف أن تطرحه في الجبل فتولت عنه وتدفقت في سيرها تحت ضياء الكواكب، ومازالت تمعن في الهبوط حتى استقبلت السفح ووارتها عن عيني (كريستيا) فجاج وشعاب

وقلب عينيه في هذه الأرجاء الفيحاء، فإذا هو وحده على الشعفة السامقة يحيط به عالم تطفو على حواشيه أشباح وأرواح، وتجري في سمائه كواكب متقاربة متباعدة، وتنوح على أطرافه وجنباته ريح ذات هدير وصليل، وتخرج من جروفه وغيرانه أصوات كأنها

<<  <  ج:
ص:  >  >>