للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الكتابة وحالات النفس]

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كتب إليّ بعضهم يسألني: هل صحيح ما روته إحدى المجلات من أني لا لأكتب حديثاً للإذاعة اللاسلكية إلا قبيل موعده بوقت قصير، وأني إذا كتبته قبل ذلك بزمن طويل فالأغلب والأرجح أن أمزقه وأكتبه مرة أخرى؟ وما سبب ذلك أو داعيه؟

فأما أني أمزق شيئاً مما أكتبه - حديثاً كان أو مقالاً أو قصة - فغير صحيح، ولست أعرف أني راجعت كلاماً أكتبه أو عنيت به بعد أن أفرغ منه. فقد غدوت كالثور المشدود إلى الساقية وعيناه معصوبتان، حتى لا يدور رأسه من كثرة الدوران واللف، وكلما وقف يستريح صاح به صاحبه: (عا) ولمسه بالعصا أو السوط، فيتحرك الثور ويستأنف الدوران، لأنه أخف مؤونة وأسلم عاقبة من الوقوف. وكذلك أراني، في حياتي، وإذا كان الثور يدري لماذا يجشم عناء هذا اللف كله، فإني أدري لماذا تكلفني الحياة هذا الجهد. وليست على عيني عصابة وإني لأنظر بهما وأرى، ولكني لا أدرك ما وراء ذلك، وليس ثم سوط يلهب ظهري، ولا عصا هناك تقع عليه، ولكن الحياة تدفعني من حيث أشعر ولا أشعر، وللحياة وخز وحفز وإغراء محسوس وغير محسوس؛ ولعل الذي لا نفطن إليه أفعل وأقوى من الذي ندركه من وسائلها. وكثيراً ما أشعر أني مدفوع إلى الكتابة وأني لا أملك التحول عنها أو إرجاءها، وأني سأشقى وأسقم إذا لم أذعن لهذا الدافع الغامض، فأجلس إلى المكتب وليس في رأسي شيء سوى الإحساس العام الثقيل بالحركة وبأنها يوشك أن تتمخض عن خاطر معين أو خالجة بينة، ويكون القلم في يدي في تلك اللحظة فأخطط به على الورقة وأنا حائر، ذاهل، لا أحس ما حولي، بل لا قدرة لي على الإحساس بشيء مما يحيط بي إلا إذا حملت نفسي على ذلك حملا، وخرجت بها من ضباب الحيرة والذهول والسهو بجهد واضح، ثم تخطر لي عبارة فأخطها، وأنا لا أدري إلى أين تفضي بي، ويغلب أن يطول ترددي في البداية ثم يمضي القلم بعد ذلك بلا توقف ويستغرقني الموضوع وتستولي روحه عليّ، فلا يبقي لي بال إلى شيء، حتى إذا انتهى الأمر ونضب المعين ألقيت القلم والورقات ورحت أتثاءب وأتمطى كأنما كنت نائماً، ويكون هذا آخر عهدي بما كتبت في يومي

<<  <  ج:
ص:  >  >>