وقد استعملت لفظ (التمخض) وأنا أعنيه، فليس ثم أدنى فرق فيما أعلم وأحس بين التمخض بالجنين، وبين حركة التوليد في النفس؛ وكما تفتر المرأة بعد أن تضع طفلها، ولا ينازعها في ذلك الوقت شوق إليه أو تحس فرحاً به، وإنما يكون إحساسها بالفرج بعد الضيق الذي كانت فيه والكرب الذي كانت تعانيه، والراحة بعد الجهد والمشقة والعذاب، والتفتير الذي يورثها إياه ما تجشمت، كذلك يكون الأديب بعد أن يستريح من أزمة النفس أو الفكر
ويخطر لي أحياناً أني كالمسافر الذي لا يذهب إلى المحطة إلا والقطار يوشك أن يتحرك، فما أراني أكتب إلا في اللحظة الأخيرة؛ وقد ألفت أن أرجئ الكتابة مادام في الوقت فسحة، وأحسب أنه لو وسعني أن أكف عن الكتابة لفعلت، فأني أوثر الراحة على هذا العناء الباطل، وبي مثل بلادة التلميذ الذي لا يذهب إلى المدرسة إلا محمولاً على ذراع الخادم، فليت من يدري أهذه عادة اعتدتها أم هي طباع وفطرة واستعداد؟ على أني أعرفني من المرجئين في كل شيء: الدَّين أفر من أدائه ما وسعني الفرار، والنوم أكره أن أستيقظ منه، والفراش يشق عليّ أن أترك نعيمه، واليقظة أستثقل أن أنزل عنها - كل حالة أكون فيها أشتهي أن تطول وتدوم، إلا التنغيص والألم كما لا أحتاج أن أقول
وقد جربت أن أكتب ولا انشر، فكتبت رواية (طويلة) ودسستها في درج المكتب، ومضت شهور، وسافرت إلى لبنان فحملتها معي لأراجعها هناك قبل طبعها، فلما أجلت فيها عيني وجدت أن الحالة النفسية التي كتبتها بها قد ذهبت، وأن حالة أخرى قد استولت عليَّ، فحاولت أن أستعيد تلك الحالة الأولى فأعياني ذلك، فأجريت القلم في الرواية بالتبديل والتغيير، والتقديم والتأخير، والحذف والاضافة، وإذا بالرواية قد صارت شيئاً جديداً فقلت لا بأس، وطويتها، وفي عزمي نشرها بعد الأوبة إلى مصر. فلما صرت في بيتي خطر لي يوماً أن أخرجها وأتصفحها، فإذا بي في حالة نفسية جديدة لا تسمح لي بالرضى عن الرواية في صورتها الثانية. . . فأعملت فيها القلم ومسختها مرة ثانية، ومازلت بعد ذلك أرجع إليها بالمسخ كل بضعة شهور حتى يئست فانتزعت منها فصولاً تصلح أن تكون قصصاً قصيرة ومزقت الباقي. وحمدت الله على الراحة بعد طول العناء. وأيقنت أنه خير لي ألاَّ أكتب إلا إذا وثقت من النشر بعد أن أضع القلم