الإنسان إما أن يبين عن حقائق خارجة عن نفسه لا يصلها بخياله ولا يصبغها بعاطفته، وإما أن يعّبر عن حقائق امتزج بها الخيال ولَّونتها العاطفة، أو عن خيالات مخترعة ليست صورة من حقائق العالم
إذا قال الجغرافي في وصف أرض: فيها أدوية عميقة بين جبال عالية، فقد أبان عن حقيقة رآها أو سمعها؛ لم يصلها بالعاطفة فيبيّن إعجابه بها أو خوفه منها أو انبساطه أو انقباضه لمرآها أو ما تخيله حين شاهدها
وإذا قال كاتب في وصف هذه الأرض:(تهولك بها أدوية عميقة تطلّ عليها جبال شامخة عاتية يحلق الطرف دون ذراها).
فقد أبان عن الحقيقة مشوبة بما شعر هو به من رهبة وما تخيّل من إطلال الجبال على الأدوية وتحليق البصر دون قممها
وكذلك يقول الجغرافي:(صحراء منبسطة مستوية طرقها متشابهة، شديدة الحر، كثيرة الرياح) فينقل إلى السامع صورة الصحراء لم تغيرها عاطفته، ولم يزد عليها خياله
ويقول الشاعر في وصف هذه الصحراء:
ومَجٌهل كاطِّراد السيف محتجز ... عن الإدلاّء مسجور الصياخيد
تمشي الرياح به حسري مولَّهة ... حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد
موقف المتن لا تمضي السبيل به ... إلا التخلل ريثا بعد تجهيد
فتراه قد أفاض على الصورة الطبيعية ألواناً من شعوره وتخيله
وانظر الفرق بين فلكيّ يتكلم عن الشمس طلوعِها وغروبها ودورتها السنوية، وعن القمر ومنازله، والنجوم وحبكها؛ يصف الحقيقة كما هي على قدر إدراكه، وبين من يقول - مثلا -:
منع البقاَء تقلبُ الشمس ... وطلوُعها من حيث لا تمسي