تحدثنا فيما سبق عن رسالة أبن القارح، وأن أسلوبها أثار في نفس المعري رغبة في الضرب على غرارها، والاتجاه مع تيارها. بيد أن المعري أرانا أفانين من الخيال مما يحدونا أن نقول: إن رسالة أبن القارح وإن تكن أثارت لديه فكرة نقد الشعراء، ومحاورة الرواء والأدباء. . فلا يدور بخلدنا إنها كونت فيه روحاً ليست عنده، أو ألهمته فكرة لم يكن هضمها من قبل. على إنها وإن ذكرته الحوار والنقد فأن ثوب الخيال الذي ألقاه أبو العلاء على رسالة غفرانه يتسامى عن طوق أبن القارح وآلاف مثله. وما كان أبن القارح ليستطيع أن يتخيل تلك الرحلة العجيبة في طبقات الجنان، وبين دركات الجحيم.
ولدينا برهان قوي على أن المعري لم يسلك سبيلاً عبدها له أبن القارح، وأن رسالته ما كانت غير سبب مباشر، نبه من المعري فكرة راسخة. ذلك البرهان هو رسالة الملائكة التي نرى فيها خيال المعري يطوف بالجنة وبالنار يقرع أبوابهما، ويمزح مع الخزنة والحراس والملائكة في محاورة تستهوي اللب، وتضحك أشد الناس عبوساً. إذ يحاور عزرائيل حين يزوره زورة الموت، فيقول له: أمهلني ساعة حتى أخبرك بوزن عزرائيل. ولكن ملك الموت إذا جاء لا يؤخر عمله، فيستل روحه من بين جنبيه، ثم بقذف به إلى القبر فيلقى منكراً ونكيراً. وبدلا من أن يجيب سؤالهما. يبتدرهما هو بالسؤال فيقول: كيف جاء اسماكما عربيين منصرفين وأسماء الملائكة كلها أعجمية مثل إسرافيل وجبرائيل وميكائيل؟
فيقولان هات حجتك. . وكأني بأحدهما يهوي إليه (بالارزبة) فيتملقها قائلاً. قد كان ينبغي لكما أن تعرفا وزن ميكائيل وجبرائيل على اختلاف اللغات إذ كانا أخويكما في الله عز وجل. فلا يزيدهما ذلك إلا غيظا. . ثم يتخيل أنه تلاقى مع (مالك) خازن النيران فيحاوره لا في العذاب ولا في الزبانية. ولكن في أوزان الأسماء وجموعها فيقول له: أخبرني - رحمك الله - ما واحد الزبانية؟
فيعبس مالك لما يسمع ويكفهر. ثم يسائله عن (غسلين) قائلاً أهو مصدر أم واحد أم جمع؟.