هفت الشمس إلى المغيب، وخبا هجير الحر أو كاد، وأنا جالس في مقهى من مقاهي طنطا إلى نرجيلة أبسم لها وتبسم في هدوء، وبين يدي كتاب أنبذه بين الحين والحين، لأسرح النظر في هذا الناس، وهم يتدفقون زمراً إلى حيث يتنسمون روح الجنة بعد إذ هبت عليهم زفرات الجحيم تحبسهم في الدور ساعات طوالاً.
ما لهذا الفتى هنا في غير داره يمشي وحيداً، يثاقل في مشيته، مطرق الرأس، مقطب الجبين، ساهم النظر؟ أنه يتراءى لي كان وقدة الشباب التي كانت تتسعر في قلبه قد انطفأت وهو ما يزال عند الثلاثين، وكأن نزوات قلبه قد عبثت بها يد الأيام فاستحالت إلى ما أرى: إلى هم وكمد، أو هو يرزح تحت عبء ثقيل ينوء به.
عرفته وعرفني منذ سنوات وسنوات، وقضينا معاً عمراً من العمر كان لذيذاً حلواً، وكان هو - كدأبه أبداً - روح الجماعة الطروب، والضحكة الخالصة الرنانة، والنكتة الحاضرة الجميلة و. . . فما بالي أراه اليوم فيما أرى؟ لعل حدثاً من حوادث الأيام قد انحط عليه فسلبه رواء الشباب وبهاء الحياة.
وتعلق بصري به وهو يسير إلى غايته لا يرفع رأسه ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، كأن شيئاً في هذا الخضم المضطرب حوله لا يعنيه؛ وأنا على خطوات منه لا أستطيع أن أناديه، وفي الصوت بحة، والنفس إلى لقياه مشوقة بعد سنوات من فراق أرغمتنا عليه دواعي العيش.
يا عجبا! لقد مستني روحه الحزينة، فوجدت لذع الأسى في قرارة نفسي!
وناديت الندل عله يرد صاحبي إلي.
ورآني الفتى فتبسطت أسارير وجهه هوناً ما. وأقبل فسلم وسلمت، ثم جلسنا في صمت أنا إلى نرجيلتي، وهو إلى خواطر نفسه. . .
وألح علي الأسى والعطف في وقت معاً. فاستلباني من لذاذات كنت أجدها في الكركرة وفي الكتاب وفي النظر إلى هذا الناس. فالتفت إليه أقول:(أهكذا أنت؟).
قال:(نعم، يا صاحبي، قد كان لي قلب فضيعته!). . . وترقرقت في محجريه عبرات