تبين مما سقناه في المقال السابق أن الإمام الغزالي رحمه الله قد حاول أن يفهم طبيعة العقل وكنهه. فعجز عن فهم هذه الطبيعة وإدراك هذا الكنه. (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) فلجا إلي آثار العقل ومظاهره أو معانيه وصفاته. فوفق في فهم هذا كل التوفيق وإدراك من صفات العقل ومعانيه ما جاء موافقا كل الموافقة لما وصل إليه علم النفس الحديث في هذا الموضوع؛ فقد أدرك الإمام الغزالي ببصيرته النيرة أن في الإنسان استعدادا للفهم، وان هذا الاستعداد غريزي فطري، وانه كالنور الذي يقذف في القلب فيعين صاحبه على إدراك الأشياء، ثم راح يقسم هذا الإدراك للأشياء أقساما أعتبرها أجزاء العقل أو صفاته ومعانيه، فكان موفقاً أيضاً غاية التوفيق في ذلك التقسيم الدقيق الذي شمل المعرفة العقلية من ابسط أنواعها الغريزية إلى أرقى درجاتها الفكرية.
ثم أدرك الغزالي أن العقل وحدة تشمل خبرة الإنسان الماضية والحاضر وميوله النفسية الموروثة والمكتسبة وتتجلى هذه الوحدة العجيبة في الإدراك والوجدان والنزوع وعناصره البسيطة.
ولهذا رأيناه يتحدث في الجزء الأول من إحياء علوم الدين عن العلم والعقل في قسم واحد مما دلنا دلالة تامة على أنه كان رحمه الله مدركا ما قرره علم النفس الحديث من وحدة العقل الشاملة لخبرة الإنسان الماضية الحاضرة وميوله النفسية الموروثة والمكتسبة وأن هذه الوحدة تتجلى في مظاهر الشعور الثلاثة وهي الإدراك أو ما سماه هو (العلم) والوجدان وهو ما سماه (الحال) والنزوع وهو ما سماه (العمل).
ولندع الآن هذا ولنأخذ الجزء الأول من إحياء علوم الدين فنقلب صفحاته فنعرف لأول وهله أنه كتاب في علم النفس التربية والتعليم. إذ أكثر الكتب النفسية والتربوية الحديثة يفتتحها أصحابها بتمهيدات في معنى العلم وأغراضه، ومواضيع العلوم وغاياتها وأقسامها وأسمائها، وتعريف للنفس أو العقل أو الروح، وتقسيم للشعور والللاشعور، وتحديد للغرائز