والميول وتبين للسلوك وأنواعه العادية والشاذة، وما يتبع هذا من المواضيع النفسية، فنرى الغزالي رحمه الله يبدأ كتابه الأحياء بالحديث عن المرتكزة على تلك المعرفة النفسية الواسعة المستمدة من تأمله الذاتي العميق وملاحظته الخارجية الدقيقة. وها نحن نراه يتحدث عن العلم في سبعة فصول يذكر فيها فضل العلم والتعلم والتعليم ويذكر أسماء العلوم ومواضيعها، وآداب المعلم المتعلم وآفات العلم والعلماء والعقل وفضله وأقسامه وما جاء فيه من الأخبار
ولنصغ إليه وهو يتحدث عن فضيلة العلم، مندفعا بالمعرفة الغريزية والإيمان القوي والعاطفة المشبوبة:(أعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره وإلى ما يطلب لذاته وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعاً. فما يطلب لذاته اشرف وافضل مما يطلب لغيره. وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رايته لذيذاً في نفسه مطلوباُ لذاته، ووجدته وسيله إلى الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به. وأعظم الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل ألا بالعلم؛ فاصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال)
يستمر الإمام الجليل مندفعاً في تبين فضائل العلم وتفاوت هذه الفضائل بالنسبة لخير الناس عامة ولسعادة المسلمين في الدنيا والآخرة بصورة خاصة. ونحن نلمح هنا في هذا القول الذي سطره قلم الغزالي عن فضيلة العلم أن الغزالي يشير إلى وحدة الشعور والعملية العقلية إشارة واضحة صريحة. يقول لن يتوصل إلى السعادة إلا بالعلم والعمل، فالعلم والعمل هما المظهران الأساسيان للشعور الإنساني؛ أما العاطفة فهي ما تجده في نفسك من لذة أو ألم يصحب الإدراك والنزوع أو العلم. وهو يؤكد هذا المعنى فيما بعد بقوله الواضح الصريح (إن العلم ينقسم إلى علم مكاشفة وعلم معاملة والمعاملة، التي كلف العبد البالغ العمل بها ثلاثة: اعتقاد وفعل وترك وهو يعني الاعتقاد العلم الأكيد الذي لاشك فيه. ويعني بالفعل والترك النزوع الإيجابي والنزوع السلبي، وما يسميه علم النفس الحديث (بالتوفيق والكف). وكأن الغزالي أراد أن يزيد هذا المعنى وضوحاً وتوكيداً، فقال في موضوع آخر: لا يستطاع العمل إلا باليقين، ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه، ولا ينقص عامل حتى ينقص يقينه). أما علم المكاشفة الذي ذكره الغزالي فهو وحي العقل الباطن وإلهام اللاشعور.