جلست ذات مساء في دكان الخياط ضجراً من ضياع وقتي في انتظار بدلتي متعجباً من أن يخلف الخياط موعده إياي أربع مرات وهو لا يزداد خجلاً في كل مرة عنه في سالفتها وإنما يزداد هدوءاً وصفاقة وجه لأنه لم يخجل قط وذلك فيما أرى لكثرة ما ألف من خلف الوعد. . .
ولم أجد شيئاً أتفرج به بعد أن فرغت من التفكر في صفاقته فثقل عليّ الانتظار وهممت بالانصراف، وإذ ذاك دخل الدكان شابان حاسرا الرأس لم ألبث أن أحسست أن فيهما ما أنشد من فرجة. . . كان أحدهما فيما قدرت في العشرين أو فوق ذلك قليلاً، وكان الثاني دونه بنحو عامين، وكانا كلاهما من أناقة الملبس وسطوع الألوان بحيث يستوقف ذلك منهما البصر قبل أي صفة غيره. . ونظرت فإذا بأصغرهما يتخطر إلى المرآة فينظر فيها نظرات أشاعت في عينيه وملامحه جميعاً الإعجاب والغبطة، ثم يصلح رباط عنقه ويصف شعره فودية، وقد اطمأن إلى بريقه ونعومته، ويستدير يمنة ويسرة فينظر إلى عطفيه وجانبيه، ثم يلقي نظرة على هيكل كله في بدلته الجديدة، ويستدير المرآة مزهواً يصفر بشفتيه لحناً وفي مشيته من الطراوة والتخلج ما لا يدع في بدنه من الرجولة إلا الاسم. وأخرج الثاني مشطه ومشى إلى المرآة فأصلح شعره ووثق في لمحات قصيرة من جمال طلعته وأناقة بدلته، ثم جاء فجر مقعداً وجلس عليه قبالة صاحبه الذي اختار أن يجلس على حافة منضدة في وسط الدكان معتقلاً ركبته بيده تارة، مستنداً إلى ذراعيه يكاد يستلقي على ظهره فوق المنضدة تارة أخرى. . . وما اختار المنضدة مقعداً فيما اعتقد إلا ليبقى تجاه المرآة يستمتع بما يرى من وجاهة.
وأخرج أصغرهما علبة سجائره ومدها إلى صاحبه، وراحا يرسلان الدخان في جو الدكان ورأيت لأصغرهما أوضاعاً يتكلفها للسيجارة بين أصابعه وفي فمه وفي كفه إذ يشير بها أثناء الحديث، وأوضاعاً للدخان كيف ينفثه وذلك عنده من مصطلحات الأناقة والظرف، واستبطأ الخياط، وضجرا من أن تضيع دقائق من وقتهما الثمين في انتظاره؛ وكان الأصغر يثب إلى الباب كل دقيقتين أو ثلاث يضن بأناقة ورشاقة أن يذهبا سدى طول هذا