وطبيعة الأول تجعله بحيث يعقل ذاته وتتعقله، فهو واحد قيوم، ذاته غير قائمة بغيرها - بل بنفسها، ومجردة عن علائق المادة، منزهة عن العهد والضعف وكل حس أو وهم أو تخيل من شأنه أن يجعل غير معقول أو يمت إلى الحس بسبب، ومن كان ذلك شأنه فقد بين الشيخ الرئيس في النمط السابق لهذا أنه يصير عاقلاً ومعقولاً - وعاشقاً ومعشوقاً - فأنظره.
ونهاية المطاف ما ينبه عليه ابن سينا من الفرق بين مذهبه في إثبات وجود الله وبين غيره من المذاهب، فبينما المتكلمون من المسلمين يستدلون بالمخلوقات على الخالق، وبالصنعة على الصانع، وهو ما ذهب إليه كثير من الفلاسفة المتوحدين - مسلمين ومسيحيين؛ وبينما الحكماء الطبيعيون يستدلون بوجود الحركة على محرك، والمحركات إلى محرك أول - كما هي حجة أرسطو خصوصاً؛ إذ الفلاسفة الإلهيون - وهم منهم - يستدلون بالنظر في الوجود ذاته على إثبات واجب الوجود، في مقابل الممكن، ثم يتبعون ذلك النظر في ذات واجب الوجود بإثبات صفاته - على هذا النحو الذي فعل ابن سينا - بمعنى أنهم يستدلون بالعلة على المعلول - لا العكس - وهو أكثر يقيناً، وأتم شرفاً، وأولى بقومه الإلهيين الصدّيقين الذين لا يرون الله في (الآفاق وفي أنفسهم) بل يستشهدون بالحق على كل شئ - عملاً بقوله:(أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد)؟ فلم يحتج إثبات وجود الحق ووحدانيته وبراءته عن السمات التي تأمل لغير نفس الوجود ليشهد به الوجود من حيث هو وجوده - ثم يشهد هو بعد ذلك على ما هو واجب بعده.
تلك هي طريقة إثبات وجود الله عند الإلهيين من الإسلاميين كما يعبر عنهم ابن سينا في أروع كتاب له في الحكمة المشرقية.