في شهر مارس من عام ١٩٢٥ أسعدني الحظ بالوقوف بباريس مدينة الفن والجمال والنور لأيام قلائل جعلت همي خلالها ارتياد المتاحف والدور والمعارض الني تزخر بأشتات الفنون، التالد منها والطريف. وكنت أنتهب بعيني وقلبي تلك الروائع الفريدة، وأحاول جهدي استيعابها واستذكار ما دق من محاسنها ومفاتنها ولكن هيهات!
وكان من بين ما راعني وملك على لبي ومشاعري أعمال المثال العظيم رودان، ثم غادرت مهد الفن والجمال آسفاً، ولم أنقع صدى نفسي الهيمانة من نمير ذلك المنهل الصافي العذب. غادرته وبالحلق غصة، وبالقلب لوعة، إلى بلاد الثروة والمال والجاه - إلى أمريكا العظيمة. واستقر بي المقام بولاية كاليفورنيا، قبالة مدينة سان فرنسسكو - عروس المحيط الهادي، حيث انصرفت إلى الدرس والتحصيل - تحصيل العلم والفن. غير أن شواغل الدرس لم تكن لتصرفني عن التحليق بروحي من آن لآخر في سماء باريس وفي ردهات متاحف باريس لعلي ألم ببعض ما افتتنت به من روائع القدامى والمحدثين، وبما أحببت من أعمال رودان. ولم ألبث طويلا حتى رأيت المال الأمريكي يستقدم نسخاً عديدة من أعمال هذا العبقري العظيم ويحشدها بأحد متاحف مدينة سان فرنسسكو، فكنت أخف لزيارتها من حين لآخر دارسا لها، مستمتعا بها.
وفي ليلة الميلاد من عام ١٩٢٨، أهدى إلى كتاب عنوانه:(الفن) وضعه الكاتب الشهير بول جيزيل في أسلوب محاورة جرت بينه وبين رودان، يعرض الكاتب مسألة فنية فسيندفع الفنان في شرحها وتحليلها وإبداء رأيه فيها. وقد حاول الكاتب والفنان معا أن يجلوا كثيراً من نواحي الفن وأن يقربا فهمه إلى أذهان الكثيرين ممن لا يستطيعون فهمه على حقيقته، وأن يثقفا به عقول الكثيرين ممن يعنون بقراءة الكتاب ويقدمون لهم غذاء