كلمة لها تاريخ، ولتاريخها اتصال بالعادات والعقائد وأطوار اللغات والألفاظ، ولا سيما في انتقالها من المحسوسات إلى المجردات، ومن البساطة إلى التركيب
كم من الذين يتحدثون بالتضحية في معرض الحب أو الحماسة الوطنية أو المعاني الروحية يذكرون أن أصلها الأول أكلة في الضحى؟
فالتغذية تقديم الطعام في وقت الغداة، والتعشية تقديم الطعام في وقت العشاء، والتسحير تقديم الطعام في وقت السحر، والتضحية بالشاة أن تذبح الشاة أو تؤكل ضحى على هذا السياق.
وهذا هو المعنى الذي صعد به الإسلام من أكلة إلى قربان إلى فداء، إلى هذه المعاني التي نرددها اليوم كل صباح ومساء وتاريخ الكلمات في الانتقال من المادية إلى الروحية هو تاريخ العقل الإنساني في فهم الحقائق والنظر إلى الحياة.
فما العقل؟ وما الكتابة؟ وما الفن؟ وما الجمال؟ وما العلم؟ وما الرسم والتمثيل؟ وما الجوهر واللباب؟
كلها لها أصول لا تزال تلمس باليد وتدرك بالحس، وكلها قد صعدت من هذه الأصول المحسوسة إلى تجريد لا تدركه العقول إلا بعد شغوف وإمعان
وإذا كانت متابعة الكلمات في اللغة الواحدة متعة للفكر ومعواناً على فهم الأصول والحقائق، فأمتع من ذلك واعون على الفهم أن تضاهي بين الكلمات في لغات مختلفات. فإن لهذه المضاهاة فائدة صحيحة لا يستغني عنها باحث في علم ولا مستقص لتاريخ ولا متعمق في دين
انتقلت التضحية من أكل في الضحى إلى أسمى معاني المفاداة التي يهون فيها بذل الأرواح
ولكن الفداء نفسه قد انتقل في معانيه مثل هذا الانتقال بل أبعد من هذا الانتقال
فقد كان الفداء في بدايته الأولى أشبه شيء (بالزيارة) التي يحملها اليوم أهل الميت إلى قبره من فاكهة يفرقونها، أو ريحان ينثرونه، أو ذبائح ينحرونها ويفرقونها على المساكين في جدة الوفاة.