وكان اعتقاد الهمج الأولين أن الأموات يطلبون الغذاء كما يطلبه الأحياء، ومن هؤلاء الأموات أقوياء بطاشون ينتقمون أشد النقمة ممن يحرمهم نصيبهم في الطعام والشراب، ومنهم أعزاء محبوبون يشق على أحبابهم أن يتخيلوهم بعد الموت جياعاً عطشى محرومين هائمين يبتغون الري والشبع ولا يرتوون ولا يشبعون، ومنهم شفعاء مقبولون يأخذون ويعطون: يأخذون (الزيادة) ويعطون بديلاً منها في ضمير الزائرين والمتشفعين.
وترقى معنى الفداء الذي نشأ هذه النشأة قليلاً حتى هذبته وصقلته الحضارة، فاقترب من معنى الإحسان وابتعد من معنى الخوف على الأحياء وإشباع من في القبور.
ٍفالذين يتصدقون بالطعام اليوم لا يقصدون به أن يأكله الموتى ولا أن يدفعوا به ونقمتهم إذا جاعوا وظمئوا وصنعوا بالشاربين الطاعمين ما يصنع الجياع الظماء
ولكنهم يقصدون أن يحسن الله إلى موتاهم كما يحسنون هم إلى المعوزين، ويودون أن يبلغوا الموتى أنهم لا يزالون من العزة عندهم بحيث كانوا في أيام الحياة، فهم يبذلون لهم ولا يضنون عليهم. ويتعمد بعض الزائرين أن يختاروا من صنوف الطعام ما كان شهياً مفضلاً عند الميت في أيام حياته، تعزياً بالفكرة لا تصديقاً بحاجة الميت إلى غذاء الأحياء.
وبعض الأحياء يعكس الأمر فيحرم على نفسه الصنوف التي كانت شهية مفضلة عند موتاه، كأنما يأبى أن يستمتع بما حرموه ويريد أن يساويهم في الحرمان، وكلاهما شعبة من معنى واحد هو الوفاء والادكار، والضن على النفس في سبيل من ضنت عليهم الحياة باللذات والطيبات.
ذلك أصل من أصول الفداء، وهو رعاية الأموات
وله أصل آخر أعرق من هذا في الهمجية وأبعد منه عن تهذيب الدين والحضارة
وذلك الأصل يقابل الجزية التي يفرضها السيد على العبد، والأدب الذي يستوجبه الغالب من المغلوب
فمن الأدب الذي كان يستوجبه الفاتح المنتصر من المنكسرين أمامه أن تظهر عليهم ذلة الانكسار والتسليم، وأن يسومهم كل ما يريد ولم تكن له فائدة فيه، وأن يسلبهم فيعطوه صاغرين، ويقمعهم فيمتثلوا خاشعين، وأن يطالبهم بالإتاوات والرهائن من الرجال والنساء والأنعام، ومن الأزواد الخيرات والحطام.