وكان المنهزمون يستنقذون أنفسهم بتسليم فريق منهم للقتل، ويستنقذون أموالهم بإهداء نفيسها ومختارها واستبقاء ما يزهد فيه الفاتح أولا يهتدي إليه
فلما عبد الهمج أربابهم وأوثانهم واعتقدوا فيهم القوة والغلب جعلوا لهم حقاً في الضحايا والهدايا كحق المنتصر على المهزومين، وافتن الكهان في تنظيم هذه الجزية (المقدسة) التي تؤول إليهم في الحقيقة سرَّا وجهرة في كثير من الأحيان؛ فانتظمت من ثم شعائر التضحية والفداء؛ وبالغ بعضها في القسوة حتى تقاضت للأرباب والأوثان بواكير كل شيء من حيوان ونبات، وفي طليعتها الأبناء وهم رضعاء أو دارجون.
وقصة إبراهيم هي حد فاصل في نظرة الأديان إلى الفداء كما كان قديماً وكما هو مفروض الآن. وفي ذلك يقول القرآن الكريم:(فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟ قال يا أبتِ افعل ما تؤتمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتّله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدَّقتَ الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم)
وهكذا ترقى لفظ الفداء ومعناه. فأما لفظه فحسبك انتقاله من الضحية التي هي شاة تذبح في الضحى إلى الضحية التي هي قربان وإحسان.
وأما معناه فالانتقال فيه أعظم، لأنه انتقال من أكلة إلى ذروة الأخلاق العليا. إذ كانت خلاصة كل خلق وكل عقيدة وكل تكليف أن يجود الإنسان بما يعز عليه، وأن يفضل بعض الحرمان على بعض المتعة، وأن يعصي داعي الغريزة إذا حسنت له كل سلامة وكل كسب، وبغضت إليه كل إقدام وكل إعطاء.
وهنا يفوق الإنسان الغريزة فيرتفع من حضيض البهيمية إلى شرف الآدمية
وحيثما وجد دين وخلق فهنالك عصيان لغريزة من الغرائز لا مراء، فإن الدين والأدب لازمان لهذا ونافعان لهذا، لا لأنهما مطاوعان للغريزة في كل ما تمليه وترتضيه.
الغريزة تقول لك إن اللذة خير من الألم، وأن الحياة خير من الموت، وأن الأثرة خير من الإيثار، وأن حبس المال خير من بذله، وأن الراحة خير من المشقة.
ولو كان هذا هو الخير حقاً لما ظهرت الأديان والأخلاق، ولكانت الغريزة وحدها كافية كل الكفاية وفوق الكفاية، ولأصاب الإنسان الخير كما يصيبه الحيوان بغير عناء.