زارتني، ذات يوم، سيدة، ومعها طفلة تناهز الرابعة، فسقيت السيدة القهوة المرة التي تحبها، وحرت في الطفلة: ماذا أسقيها أو أطعمها، أو بماذا ألاعبها، وليس في مكتبي ما يصلح لها؟ ثم خطر لي أن أبعث بالخادم ليشتري لها (شوكولاته). فقالت السيدة:(إنك تدللها وتفسدها). قلت (دعيها تتدلل وتفسد - على قولك - فلن ترى ارغد من أيامها هذه). قالت:(وستحبك بالشوكولاته!)، وضحكت. قلت:(هل تعلمين أن كل حب لإنسان آخر هو من حب النفس؟). ولم أطل في هذا المعنى فإني أعرفها تكره الفلسفة وإن كانت ذكية لبيبة. وجاءت الشوكولاته فأخذتها الطفلة من الخادم وابتسمت له مسرورة. فقالت لها السيدة - وأشارت إلي -: (إنه أولى بابتسامك، فقومي إليه واشكريه بقبلة). فانحدرت عن مقعدها خفيفة ضاحكة ولثمت خدي. وعادت إلى الشوكولاته، وهمت أن تنزع عن بعضها الورق وتأكل؛ فنهتها السيدة عن ذلك وقالت لي إنها ستدخل طعام على طعام، وليس هذا بمحمود أو مأمون. ولفت لها الشوكولاته في ورقة وناولتها إياها وربتت لها كتفها وقالت:(أبقيها معك إلى ما بعد). فأطاعت الطفلة ووضعت اللفافة في حجرها، وجعلت تقلبها وتعبث بها، وذهبنا نحن نتكلم، وإذا بالسيدة تغمزني بعينها مشيرة إلى طفلتها، فنظرت فألفيتها قد فكت الورقة وأقبلت عل قطع الشوكولاته تحركها بإصبعها، فهززت رأسي مستفسراً. فقالت السيدة:(إنها تعدها). قلت:(لعله يفرحها أن تعرف عددها). قالت:(لا) وهزت رأسها: (ما أظن بها إلا أنها تعدها للمرة الثانية). قلت:(ماذا تعنين؟). قالت:(أعني أن أكبر الظن أنها عدتها حين أخذتها. ثم أخذتها أنا منها ولففتها في هذه الورقة، فهي تعدها مرة ثانية لترى أنقصت أم بقيت كما كانت). قلت:(اتقى الله!). قالت:(لك رأيك، ولكنها بنتي فليس تَخفي عليّ من أمورها خافية)
وصارت الطفلة تعرفني بعد ذلك (يا بابا شوكولاته) وهي خليقة أن تعرف اسمي، وأن تستطيع النطق به، فما هو بأثقل أو أصعب من لفظ الشوكولاته، ولكن الشوكولاته حلواوها الأثيرة، وأنا أتحفها بها كلما لقيتها، فهي تهمل اسمي وتطلق عليّ ما تحب، ولو أهملت أن أقدم لها الشوكولاته، أو قصرت في هذا الواجب، لزهدت في لقائي وانصرفت عن ذكري،