الفزع. ثم كان من أثر هذه الحياة السليمة الوادعة، وهذه التربية المدرسية البليدة، أن فشا بيننا داء العجائز وهو الكلام، وداء الضرائر وهو الحسد؛ فأفواهنا الثرثارة لا تفتر عن قرض الأعراض والعلائق، وعيوننا الطامحة لا تغمض عن الحسد الأرزاق والمواهب، حتى اتسعت الأحداق وطالت الألسن، بمقدار ما ضاقت الأخلاق وقصرت الأذرع. فلو كنا نشأنا على الجندية، وتمرسنا بالحروب، وارتضنا في الشدائد، لكثر فينا رجال القيادة والنظام، وقل بيننا أهل السياسة والكلام، وكان عندنا من الشركات والجمعيات والمصانع والمجامع أضعاف ما عندنا من المؤتمرات والأحزاب والمقاهي والصحف. . .
هذه هي القارعة التي تهتك حجب الأسماع وأغشية الأبصار وغُلف الأفئدة. فاليوم لا كسل ولا جدل ولا اتكال ولا استكانه. لقد سلكنا متن الحياة بعد أن كنا نسير على الهامش، وخضنا عباب الأمر بعد أن كنا نعيش على الشاطئ، وحملنا تكاليف مصر العزيزة بعد أن كنا نلقيها من الخور والهون على الأكتاف الغريبة كتفاً بعد كتف
لشدَّ ما يشرق في تاريخ النيل ذلك اليوم الذي يزحم فيه البحر والبر والجو أسطولُه الماخر وأسطوله الطائر وجيشه الجرار، ثم يستقتل في سبيله بنوه البواسل الميامين في الحصون والخطوط والخنادق، ليكون لثراه الحبيب من دمائهم رِي، ومن أشلاء عدوهم سماد، فيغصب فيه جدب العقول، ويزكو به غِراس البطولة!
مرحباً بالنار إذا كانت تذيب غش الأخلاق وزيف العزائم! وأهلاً بالحديد إذا كان يجذب ميت الأصول وذاوي الأفرع! ونِعِماَّ يبتلينا به الله إذا كان من ورائه جمعة من هذه الفرقة، وحياة من هذا الموت!
لقد استنفرَنا الماضي ببوق فرعون، واستفزنا الحاضر بوعيد بيرون، فلم يبق إلا أن نميط اللثام عن الوجه الحر، وننفض الغبار عن المعدن الكريم، ثم نولي وجوهنا شطر الحدود المقدسة، ونقوم للوطن كما نقوم لله صفَّا صفَّا، طائعين خاشعين، متحدين مستعدين تنتظر نداء العلَم الموموق وأمر القائد الأعظم!