أو كلما كظمت الأنفاس روائح الشر، وكرَبت النفوس غواشي الفساد، ذهل الناس عن مرسلي الريح ومثيري القتام وقالوا أين الكتّاب؟ هل الكاتب إلا نذير؟ وهل على الكتّاب غير البلاغ؟ لقد كتبوا حتى أوشك المداد أن ينفد، خطبوا حتى كاد الريق أن يجف؛ ولكن أكثر العامة لا يقرءون، وأكثر الخاصة لا يفهمون. ومتى أغنى القول عن الفعل، وجَزَى الرأي عن العزيمة؟
إن من أقبح ما يعاب علينا وعلى أمم الشرق أننا لم نعرف من أدوات السياسة ووسائل الإصلاح غير الكلام والكتابة؛ فسياستنا خطب، وإدارتنا تقارير، ومناهجنا وعود. ولو كان الشعب قارئاً لرجونا من وراء الكتابة صلاح النفس في الفرد وسمو الروح في الجماعة؛ ولكن الأمية لا تزال بفضل وزارة المعارف حجاباً مستوراً بين عيون الناس ونور الحق. فماذا عسى يصنع الكتّاب وليس لهم من الأمر شيء؟ هل يصنعون إلا أن يفتحوا بأسنان أقلامهم أجفان المتعلمين لتثب إلى عيونهم صورُ العيوب فيدركوها؟ وهم قد فعلوا ذلك ولم يألوا: فعلوه في الكتب والصحف، وفي المدارس والمسارح، حتى لم يبق في هؤلاء الذين تقسموا الحكم، وتوزعوا السلطان، وتنازعوا القيادة، من لم يحفظ صور الفساد ووجوه الصلاح عن ظهر قلب! ولكن الله الذي آتى زعماءنا ملكة الكلام لم يؤتهم ملكة العمل! فهم يستطيعون أن يقولوا ما قال الكتاب، ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا ما فعل القادة. ومصداق ذلك أنك تراهم في أندية الأحزاب، وفوق مقاعد النواب، وبين أعمدة الصحف، يكشفون عن مواضع النقص، ويشيرون إلى مواقع الكمال، فيفتون في كل مسألة فتوى العالم، ويُدْلون في كل معضلة برأي الخبير، ويعترضون على كل أمر اعتراض اليقظ؛ فإذا وليناهم الحكم وخلينا بينهم وبين العمل، التاث عليهم الأمر، وبرَّح بهم التطبيق، وأصبح جهدهم مصروفاً إلى مناقضة القول بالقول، ومعارضة الرأي بالرأي؛ كأنما تبوءوا مقاعد الحكم ليردوا وهم وزراء ورؤساء، على ما انتقدوه وهم كتاب وخطباء!
من من الزعماء يجهل أن الأمة لا تزال متخلفة في الخلق والمعرفة والحضارة عن أدنى أمم الأرض المعدودة قرناً من الزمان؛ فحياتها بدائية، وأخلاقها همجية، ونظمها ارتجالية،