ومعيشة الزراع والصناع فيها أقرب إلى معيشة البهيم، منها إلى معيشة الإنسان الكريم؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكن اشتغالهم بسفساف الأمور، وخسيس المطامع، ودنيء الشهوات، صرفهم عن النظر في شؤون الناس وأحوال المجتمع، فلا يذكرون الشعب إلا يوم يقوم الانتخاب، وتصطرع الأحزاب، ويحتاج كل طماع إلى سلالم من أكتاف المساكين يصعد فيها إلى النيابة والحكم.
ومن من الأغنياء يجهل أن الفقر في مصر ضرب من الرق يذل النفوس، ويقتل المواهب، ويشكك المرزوء به في العدل والحق؛ فهو يسكن ليستكين، ولكنه قد يثور ليثأر؟
كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؟ وهم مقتنعون بأن علة هذا الفقر هي أكلهم الحق الذي جعله الله في أموالهم للفقير؛ ولكن العلم وحده لا يبسط الأنامل الكزّة، ولا يهز النفوس الشحيحة!
ومن من العلماء يجهل أن دين الله صالح لكل جيل من الناس ولكل حين من الدهر؛ فهو ثابت بحقيقته ثبوت الخالق، ولكنه متطور بطبيعته تطور المخلوق. كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم أغلقوا على عقولهم باب الاجتهاد فظلوا في دنيا الماضين، يذهبون ما ذهبوا، ويقرءون ما كتبوا، ويجذبون ركب الإنسانية إلى الوراء ثلاثة عشر قرناً ليأخذ من ساكني القبور جواز المرور!
ومن من الموظفين يجهل أن الأمة هي أسرته الكبرى، وأن الوطن هو بيته الأكبر؛ فالعمل الذي يقف أمامه في شأن من الشؤون هو أخوه؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم في الكثير الغالب يتحاملون على ضمائرهم فيخضعونها لسلطان الكبر والأثرة، فيرفعون أقدارهم على أقدار الناس، ويضعون المنفعة الخاصة فوق المنفعة العامة!
ومن من التجار يجهل أن الحرام لا يزكو، وأن الغبن لا يحلُ، وأن الحكرة لا تجوز؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم في سبيل الثراء الدنيء يتعامون عن بؤس الفقير، ويتصامون عن صوت الضمير، ويهتبلون فرص الحرب ليعصروا الذهب والفضة من دماء القتلى ودموع لأيامي وعَرَق العَمَلة!
الواقع الذي لا مريه فيه أن أمم الشرق لا يعوزها إدراك النقص ولا عرفان الواجب؛ إنما