قال صاحبي: جئت إلى القاهرة - أول ما جئت - لألتحق بالأزهر، وكانت أمي قد نذرتني للقرآن، ونذرني أبي للعلم؛ فأنا وحيدهما، وأنا أمنيتهما على الله حين أحسا بالوحدة وقد خلت الدار من الحياة والحركة لأنها خلت من مرح الطفولة وجمالها، وحين شعرا بأن تاريخهما على الأرض يوشك أن ينبت فما لهما ولد، وحين عاشا زماناً يجدان لذع القحط والجفاف، جئت إلى القاهرة وأنا فتى ريفي لا أعرف المدينة إلا معنى يقع على أوتار أذني موقع النغم الموسيقي العذب، فينجذب له قلبي وتنبسط أساريري، ثم رأيتها فإذا هي نور يخطف البصر، وحركّة يتفزَّع لها القلب، وثورة يحار لها الفؤاد، وحياة دائمة مضطربة لا تنام ولا تخبو. وبدت عليَّ سمات الحيرة والارتباك، فإنه ليزعجني أن أسير في الشارع خفية المدنيّ أن يمكر بي وله أفانين شيطانية تسخر من بساطة الريفي وسذاجته، وخيفة السيارة أن تصفعني ومالي عهد بأساليب الحيطة والحذر، وخشية الترام أن يحطمني وبه نهم دائم إلى لحم البشر يتأرَّث ولا يشبع. ليتني كنت أستطيع أن أغدو وأروح في شوارع القاهرة أتهادى في مشيتي، وأختال في جبتي، وأفخر بعمامتي، وتحت إبطي محفظة بها وريقات صفر لا أعي مما فيها حرفاً!
وكان أبي - رحمه الله - قروياً، نشأ وتربى في الريف لا يبرحه إلا لماماً، أتسم بسماته وانطبع بطابعه، والريف ينفث في بنيه روح الكسل والتواكل، فهو يقضي ساعات الشتاء يستمتع بالدفء والفراغ، ويطوي عمر الصيف يستروح النسمات الهينة اللطيفة في ظل شجرة، يجلس إلى رفاقه على المصطبة يتجاذبون أخبار القرية، أو يتربعون على الثرى يلعبون السيجة، أو يعقدون المجالس الصاخبة يشربون الشاي الأسود. ولا همَّ له - من بعد - إلا أن ينظر - بين الفينة والفينة - إلى النبت وهو ينسرب من بين الثرى لينمو رويداً رويداً، وإلا أن يرقب البهائم وهي ترعى البرسيم في هدوء وعلى مهل. وسكن أبي إلى هذه الحياة وهي تنطوي على نسق واحد، فأصبح لا يطيق صخب المدينة ولا يصبر على ضجتها. ولكنه ما يستطيع أن يقذف بي إلى القاهرة وحيداً، وهو لا يطمئن إلى واحد من