للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شباب القرية وطلابها ممن تزخر بهم المدينة لأن فيهم الغفلة والطيش، ومرت الأيام وأبي لا يستقر على رأي.

ثم عهد بي أبي - بعد لأي - إلى الشيخ فهمي وهو شيخ كبير من شيوخ القرية، نيف على الخمسين ولما يبرح طالباً في الأزهر، يأتي إلى الجامع بين الحين والحين، يجلس إلى أستاذه ساعة أو بعض ساعة، ثم ينفلت إلى القرية في غير تمهل ولا تلبث. وهو حريص على أن يظل طالباً في الأزهر على رغم أنه لا يطمئن إلى حلقة الدرس، ولا يُعني بالقراءة والمطالعة، ولا يأخذ نفسه بالمذكراة والحفظ، وهو ضنين بمسكنه في القاهرة، وهو حجرة ضيقة قذرة، لا تتنسم هبّات الهواء النقي، ولا تغتسل بأشعة الشمس الدافئة، ولا ينفتح جفناها على نور، ولا ينتفض عن جنباتها الغبار، عُطَلُ من الأثاث إلا من حصيرة بالية لا تكاد تستر أرض الحجرة، وإلا من مخدة ولحاف مشت عليهما أحداث الزمن فتركتهما مزقاً لا تتماسك، وإلا من صندوق ضم أشتاتاً من حاجات الطالب العزب، مبعثرة متناثرة في غير عناية ولا ترتيب: ففيه الخبز والغموس، وفيه اللباس والمنشفة، وفيه الكوز والإبريق، وفيه. . . وفيه الكتاب والحذاء، وإلا من زير مهجور في ضاحية وإلى جانبه موقد. . . وعاش هذا الشيخ بين القرية والقاهرة، وانطوت السنون فما أفاد علماً ولا أصاب عقلاً ولا بلغ غاية، غير أنه عرف مسارب القاهرة ومنعطفاتها.

وتنازعتني عاطفتان متناقضتان نحو هذا الشيخ - رائدي - فأنا أطمئن إليه لأنه يكشف أمامي الطريق، وينير لي متاهات القاهرة ومضلاتها، وغداً يفتح أمامي باب الأزهر فأدخله لأول مرة وعلى شفتي ابتسامة وعلى هامتي كبرياء، أدخله طفلا يستشعر الرجولة الباكرة والشباب المتوثب والرزانة المتكلفة، وغداً يريني شيخي وهو في رأي عيني لا يبذني بشيء سوى لحيته البيضاء المرسلة التي تبعث في من حواليه المهابة والاحترام والخوف، وأنا - إلى ذلك - أمقته لأنني أحس فيه معنى من معاني جهلي، وعلامة من علامات ضعفي، فأنا لا أستطيع أن أتبين طريقي إلا حين يسير إلى جانبي. وأنا أحتقر عقله، فكيف يبلغ هذه السن وهو ما يزال طالباً لم يظفر بالشهادة ولا بلغ مبلغ العلماء! واكره رجولته وهي قد تضاءلت في ناظري حين دخلت الحجرة التي يسكن فوجدتها على تفاهتها وقذارتها تضطرب في غير نظام، وتموج بدو يبات الأرض. وأبغضه حين يتكلف العطف ويتصنع

<<  <  ج:
ص:  >  >>