للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الحنان، وهو لا يحس شيئاً من هذه العاطفة، فهو رجل قفر ممحل، عزب لم يشهد معنى الأبوة، ولا ذاق لذة الابن!

وأراد رائدي أن يغريني بأن أتخذ من حجرته مسكناً فما رضيت، وكيف أفعل وأنا قد رأيت (السام الأبرص) يدرج على جدرانها فسرت الرعدة في مفاصلي، وإني لأخاف هذه الحشرة وأبغضها وأتفزَّع لرؤيتها. هذه الحجرة قد بعثت في الانقباض والضيق، واستشعرت لدى بابها أن خواطري الجميلة قد انهارت كلها، خواطري التي حاكها خيالي منذ أن غادرت القرية، ومنذ أن هبطت القاهرة لأرى الحياة والحركة والنور. أين النور المتدفق وهو يغمر الشوارع والمنعطفات ويسيل من المنافذ والأبواب؟ أين ضجة الحياة وهي تصاعد صيحات تهتز لها أرجاء السماء؟ أين النشاط والحركة؟ أين المرح والسعادة؟ لقد توارى كل أولئك خلف جدران هذه الحجرة. يا عجباً! كيف يعيش الظلام إلى جانب النور، ويطمئن الهدوء إلى جانب الضجة، ويحيا الصمت إلى جانب الضجيج، وتستقر الذلة إلى جانب الكبرياء؟ ويهدأ الصغار إلى جانب السمو، ويلصق الشقاء إلى جانب السعادة؟ وسيطرت علي الدهشة فسلبتني من خواطري اللذيذة، وتبين لي - لأول مرة - كيف يجتمع النقيضان في صعيد واحد!

وأصر رائدي وأصررت أنا، فما استطاع أن يثنيني عن عزمي، ولا رضي بأن أبيت في المنزل، وإن المنزل ليستنفذ من مالنا في ليلة واحدة ما يكفينا أياماً، وهو حريص على المال شحيح به، حتى علي أنا وهو مال أبي. ثم استحر النقاش بيني وبينه، فقلت: (أبيت في حجرة الشيخ علي)، ووافق هذا الرأي هوى في نفس رائدي، ولكن غاظه أن أفضل تلك على هذه!

والشيخ علي فتى من طلاب الأزهر قميء نحيف ضعيف يكاد يتهاوى من هزال، ويوشك أن ينقض من وهن، يخيل إلى من يراه - بادي الرأي - أنه بقية من إنسان أو أنه نفاية رجل. وإنه ليحس مكانه من الناس وقد تخلف عنهم، فهو ما يبرح يتهادى في مشيته، ويتأنق في حديثه، ويشمخ بأنفه، ويتطاول على رفاقه، ولكنه لا يبلغ أن يكون رجلا!

وهو يعيش بين خمسة من ذوي قرابته في حجرة واحدة، وهو رئيسهم، لأنه يكبرهم جميعاً في السن، ولأنه أعرفهم بالقاهرة، ولأنه ألصقهم بالأستاذة، يتقسمون أجر المسكن على

<<  <  ج:
ص:  >  >>