للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[النقد والطربوش وزجاج النافذة]

للدكتور طه حسين

وتستطيع ان تضيف إلى هذه العنوانات عنوانات أخرى، فهناك أزقة ضيقة شديدة الضيق، ملتوية شديدة الالتواء، قد كثر على ارضها الوحل، حتى ان الذي يمشي فيها لينزلق، أو يمشي مشية مسلم بن الوليد في بيته المشهور:

إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت به مشى المقيد في الوحل

وقد أمطرت سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانا من المطر، منها السائل ومنها اليابس، نستغفر الله، بل قد صبت سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانا من البلاء، منها مرق الفول النابت، وماء المخلل، وفيها أشياء أخرى جامدة كانت تهوى على الرؤوس، وربما مست العيون، وربما دخلت الأفواه ووصلت إلى الحلوق فانعصرت فيها انعصاراً، وأذكت فيها لهيبا ونارا، وقد كان في هذه الأزقة مارد من مردة الجن أو مردة الإنس، له صدر عريض قد انتفش فيه شعر الطويل حاد كأنه الأسنة، يصطدم به الرجل القصير فإذا هذا الشعر الطويل الحاد يداعبه ويلاعبه، فيبعث بوجهه، ويدخل في أنفه وفي فمه وفي عينيه. وقد كان في هذه الأزقة غلام شرير، لسانه عذب، ويده مرة، وقد كان في هذه الأزقة شاب ظهر الغباوة والبله، خفي المكر والغدر، شديد البأس والبطش، يخيف من ليس من شأنه أن يخاف، ويضطر اثبت الناس قلبا وأشدهم استهزاء بالحياة إلى أن يعدو عدو الشنفري وتأبط شراً وابن براق، حتى يدفع إلى دار من الدور، ثم إلى بيت من بيوت هذه الدار، فلا يدخل هذا البيت من بابه كما أمر الله أن تؤتى البيوت، وإنما يدخله من إحدى نوافذه. وفي هذه الأزقة شيخ وقور، ظاهره يخيف، وباطنه فيه الرحمة واللين، وفيه الرفق والدعة، وفيه الأدب وحسن الذوق.

كل هذه الأشياء، وكل هؤلاء الأشخاص، يمكن أن تضاف ويمكن أن يضافوا إلى هذه العنوانات التي قدمتها بين يدي هذا الكلام، ولكني لم أضفها تحرجاً من الإطالة وإشفاقا من الإطناب، وإيثارا للإيجاز البليغ.

وأنا أستطيع بعد أن وضعت هذا العنوان وأتبعته بهذا الكلام، أن أتحول بك إلى ما شئت أنت أو ما شئت أنا من الموضوعات فأتحدث إليك فيه حديثا طويلا أو قصيراً، وأعرض

<<  <  ج:
ص:  >  >>