السرعة، والصحافة، والتطفل، هي البلايا الثلاث التي تكابدها البلاغة في هذا العصر
فالسرعة - وهي جناية اختراع الآلة على الناس - كانت جريرتها على الفكر بوجه أعم، أن استحال تقدير القيم التي يحتاج وزنها إلى الروية والتأمل، أو إلى الأناة والصبر، فظهر الخبيث في صورة الطيب، ودخل الرديء في حكم الجيد، وقيس كل عمل بمقياس السرعة لا بمقياس الجودة!
وكانت جريرتها على البلاغة بوجه أخص، أنها أصابت الأذهان فلم تملك أن تحيط بالأطراف، ولا أن تغوص إلى الأعماق، فجاء أكثر ما تنتج من الزبد الذي لا رجع منه ولا بقاء له.
وأصابت الإفهام فلم تصبر على معاناة الجد من بليغ الكلام، فكان أغلب ما تقرأ من الأدب الخفيف الذي لا غناء فيه ولا وزن له
وأصابت الأذواق فلم تستطيع أن تميز الفروق الدقيقة بين الطعوم المختلفة، فاختلط الحلو، بالمر، والتبس الفج بالناضح. فالكاتب البليغ قد بعجله الحافز الملح عن تعهد كلامه فيأتي بالركيك التافه. والكلام البليغ قد يسرع فيه النظر فلا يفطن إلى عبقريات الفن في تصوره وتصويره فيذهب في ذمة الغث. وقد السرعة خطأ في موازين بعض النقاد فيحسبونها شرطاً في حسن الإنتاج. وربما عابوا الكاتب المرويبالإبطاء وغمزوه بالتجويد وسفهوا قول الحكيم القائل:(لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده، فإن الناس لا يسألون في كم فرغ، وإنما يسألون عن جودته وإتقانه).
والصحافة - وهي من فنون الأدب المستحدثة - كانت جريرتها على البلاغة أنها أوشكت أن تستبد بالمجال الحيوي للكتابة. وليس في هذا الأمر على ظاهره نكير ولا مؤاخذة، ولكن عمل الصحافة رواية الأخبار العالمية، وتسجيل الأحداث اليومية، ونشر الثقافة العامة؛ وهي في كل أولئك تخاطب الجمهور فلا مندوحة لها عن التبذل والتبسط والإسفاف والمط مراعاة للموضوعات التي تكتب فيها، وللطبقات التي تكتب لها، وللسرعة التي تعمل بها. ولو كان للصحافة كتابها وللتأليف كتابه لما لقيت البلاغة منها أذاه ولا مضرة؛ ولكن حالها