مع الكتاب كحال السينما مع المسرح. فهي أوفر في المال، وأقوى في السلطان، وأوسع في الانتشار، وأشمل في المعرفة، وأغنى في الوسائل، ولذلك غلبت الكتاب على أمراء القلم؛ فهم يعملون فيها على ما تقتضيه أحوالها من مجاوبة السرعة وتوخي السهولة وإيثار العامية. وللصحافة سبعة أبواب لا يدخل بلغاء الكتاب إلا من باب واحد. أما سائر الأبواب فهي لأنماط من ذوي الثقافات المختلفة هيأتهم ملكاتهم ونزعاتهم ليكونوا جنوداً في جيش (صاحبة الجلالة)، فحملوا القلم لأنهم لا بد أن يكتبوا، ثم حملهم إدمان الكتابة ومواتاة النشر على أن يعالجوا الأدب الرفيع فقعد بأكثرهم وهن السليقة وضعف الاطلاع عن مجاراة الموهوبين من أهله؛ فسول لهم الغرور أن يخفضوا مستوى البلاغة، ويبتذلوا حرم الفن، ويوهموا الناس أن أدب الدهماء هو أدب المستقبل، لأن العصر عصر السرعة، ولأن الشأن شأن العامة، ولأن الديمقراطية تقضي باختيار لغة الشعب وإيثاره أدبه. وما داموا هم الكثرة وقراؤهم هم الكثرة؛ فإنهم بحكم الديمقراطية يملكون وحدهم حتى التشريع في الأدب: فينهجون القواعد، ويقررون الأساليب، ويعينون الكتاب ويوجهون الرأي
من أجل ذلك طغت العامية، وفشت الركاكة، وفسد الذوق، وأصبحت العناية بجمال الأسلوب تكلفاً في الأداء، والمحافظة على سر البلاغة إلى الوراء، ولم يبق للمخلصين للغة الوحي وأدب الرسالة إلا أن يكتبوا لأنفسهم ولمن يعصمهم الله من أعقاب هذا الجيل
على أن العامية الأدبية عرض من أعراض العامية الاجتماعية. فمتى برئ المجتمع من أمراض الضعة فجنح للقوة وطمح للكمال، ظهرت الأصالة في فكره، والمتانة في خلقه، والسلامة في ذوقه؛ وحينئذ يتكون الرأي الأدبي العام، وهو وحده الذي يراقب ويحاسب، ويؤيد ويعارض، فلا تجوز عليه دعوى، ولا ينفق فيه زيف، ولا يطفر به مئوف
أما التطفل فقد رأيته ظاهر الأثر على موائد الصحافة! ولكن هناك ضرباً من التطفل المغرور يجوز أن نفرده بالذكر: ذلك هو تطفل فئة من أرباب المناصب لا يقدح في كفايتهم ألا يكونوا كتاباً ولا شعراء؛ ولكنهم يأبون إلا أن يضموا المجد من جميع حواشيه فيتكلفون ما ليس في طباعهم من صناعة البيان فيقمون في النقص وهم يريدون الكمال!
قد ينبغ أولئك السادة فيما يملك بالتحصيل والمزاولة، كالتعليم والتأليف والمحاماة والسياسة؛ ولكنهم أعجز من أن يخلقوا في رؤوسهم ملكة الفن بمجرد الإرادة أو الأمر أو الادعاء.